لم يعد الحديث عن قرب أفول الحقبة الأميركية على العالم يحرج أحداً الآن. بل أصبح الحرج يواجه السلطات المالية الأميركية المتخبطة في أزمة لن تجد الحل إلا في الخروج من النظام المالي العالمي المبني على النموذج الأميركي.
صحيفة «Les Echos» الفرنسية[1] تقول إنه «ذهب ذلك الوقت الذي اعتبرت فيه نيويورك العاصمة المالية للعالم». صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية تؤكد: «لقد أصبح لأسوأ أزمة مالية بعد الكساد العظيم ضحية جديدة أخرى – هي النمط الأميركي للرأسمالية»، الذي تميز، عن النمط الألماني مثلاً، بأنه يحتقر التوجيه ويعشق المغامرة. ذلك أصبح يفقد واشنطن حقها المعنوي في ترويج مبدأ «laissez-faire» (دعه يعمل) بالنسبة إلى الرأسمالية[2].
أما صحيفة «Der Standard» النمساوية، فتقول إن “أياً من الإجراءات لم تساعد في تخفيف حدة الأزمة، وإنه لا أحد يعرف الإجراءات المطلوبة[3]”. لكن الصحيفة تشير في مكان ما إلى أنه ” لابد من الارتجال، وببساطة مواصلة تجريب كل الأدوات الممكن استخدامها للخروج من الأزمة”.
لقد بينت الأزمة الحالية أن النظم الاقتصادية الأقل تكاملاً مع السوق والنظام المالي العالميين هي الأقل عرضة لضربات هذه الأزمة. وهذا ما أصبح يشجع قادة بلدان كثيرة على الدعوة الصريحة مجدداً إلى بناء نظام مالي واقتصادي عالمي جديد وعادل.
أما البلدان الأكثر ارتباطاً بالاقتصاد الأميركي فلم تتلق آثار ضربات الأزمة القادمة من هناك فقط، بل إنها أصبحت ضحية خطط الإدارة الأميركية في محاولاتها «تجريب» الحلول المختلفة، بما في ذلك على حساب هذه البلدان، ومنها بلداننا خصوصاً. وقد لا يعجب ذلك الكثيرين حتى من الأصدقاء الذين سيدرجون هذا «الإدعاء» ضمن التفكير وفق المبالغات ونظرية المؤامرة. حسناً، لنبدأ بالمؤامرة، ومن أسعار النفط التي نشهد انخفاضها وأسعار صرف الدولار التي نشهد ارتفاعها هذه الأيام.
في مايو/ أيار الماضي بشر بولسون وبرنانكي الأميركيين «بانتهاء» الأزمة استناداً إلى أن الناتج الإجمالي المحلي الأميركي لم يشهد تراجعاً في الربع الأول من العام الجاري 2008 . الحقيقة كانت هي أن النمو سجل فقط بسبب احتساب السلع المنتجة على أساس الطلب القديم، لكن البيع تم في ظروف تراجع هذا الطلب. معطيات الربع الثاني من العام أظهرت أن الإنتاج في أميركا بدأ يتكيف مع الطلب الآخذ في الهبوط، وأن الاحتياطات تقلصت، كما أن الاستيراد انخفض في شهر مارس/ آذار وحده بنسبة 9,2%[4]. ولأن السلطات المالية لم تكن تريد وقف إصدار مزيد الدولارات كما تحدثنا مراراً، ومن أجل تشجيع الطلب الاستهلاكي فقد تم توزيع شيكات على المواطنين في إطار برنامج إعادة الضرائب (يعني برنامج الدعاية الانتخابية). 80% من المواطنين قالوا إنهم لن ينفقوا هذه الأموال على الاستهلاك، بل على سداد الديون وللادخار. وهكذا أسقط في يد السلطات.
ومنذ فشل تلك المحاولة حذر الاقتصادي الروسي المعروف ميخائيل خازن في مقال له نشر في مجلة «بروفايل» في 19 مايو/ أيار الماضي من لجوء السلطات المالية الأميركية إلى إجراء آخر. فبما أن التضخم في الولايات المتحدة يضرب بشدة في أسعار البنزين والمحروقات، فمن الممكن محاولة خفض أسعار النفط العالمية بشكل حاد ولو مؤقتا لمئة دولار للبرميــــل، والأفضـــل إلى 70 ـ 80 د/ب. وكما رأينا فقد تحققت نبوءة خازن وها نحن نشهد منذ الأسابيع الأخيرة تدهوراً سريعاً في أسعار النفط. وقد أوضح خازن في حينه أنه إذا هبطت أسعار النفط قبيل بداية الصيف فإن مفعولها سيبدأ مع بداية الخريف، أي قبيل الانتخابات. ولأن هذا الإجراء وقتي بالتأكيد، لأن الطلب العالمي على النفط في ارتفاع. فقد حذر خازن من أنه إذا عاودت الأسعار الارتفاع فسيضاف ذلك التضخم «الإصداري» الذي قد يقفز مع بداية العام المقبل إلى 25%. غير أن هذا لا يهم الإدارة الحالية لأن المشكلة ستكون خارج «جغرافيتها». أما السؤال الكبير الذي طرحه خازن، فهو: متى ستنتهي «إعادة الإصدار» وتنفجر الأزمة من جديد، قبل الانتخابات في نوفمبر/ تشرين الثاني، أم بعدها مباشرة؟ ولقد جاء الجواب العملي على تساؤله قبل أسابيع، أي قبل الانتخابات وليس بعدها. وهنا أيضاً أسقط في يد الإدارة الأميركية. لكن البلدان المنتجة للنفط دفعت الثمن. من هذا الثمن تراجع دخل البلدان المصدرة للنفط بشكل كبير وإرباك مشروعات التنمية. فإقرار مشروع الموازنة البحرينية المقبلة، مثلاً، سيواجه إرباكاً إذا كان قد اعتمد متوسط سعر برميل النفط بتسعين دولاراً.
اللعبة – المؤامرة الثانية هي لجوء السلطات الأميركية إلى رفع سعر صرف الدولار مقابل العملات الأخرى، ما أثار دهشة الكثيرين كونه يتعاكس تماماً والسياسة النقدية الأميركية طوال السنوات الماضية. وفي حين لا يبدو أن مثل هذا الإجراء يخدم الاقتصاد الأميركي على المدى القريب حيث تفوق صادرات أميركا وارداتها بفجوة كبيرة، إلا أن اللعبة السحرية هنا هي أن ارتفاع سعر صرف الدولار يخفض أسعار السلع المستوردة، أي أنه يستعرض أمام الناخبين حرص السلطات الحالية على مصالحهم. خفض سعر النفط كان أيضاً أداة فعالة لرفع سعر صرف الدولار. وقد جاءت جولات المسؤولين الأميركيين حول العالم منذ الصيف الماضي بهدف إقناع المصارف المركزية «للبلدان الصديقة» بما سمي “شراء الدولار” وسندات الخزانة الأميركية وضخ الأموال عن طريق مختلف القنوات والصفقات التجارية والعسكرية إلى الولايات المتحدة بشكل مستعجل. وقد جرى ذلك في ظل أن أسعار كل الأصول المقومة بالدولار، الأسهم، بـيوع النفط المستقبلية، وغيرها من الأوراق المالية كانت في هبوط طيلة الأسابيع الماضية.
وكما نرى فإلى جانب الآثار التلقائية لانهيار الهرم المالي الأميركي والعالمي، فإن البلدان المرتبط اقتصادها بالاقتصاد الأميركي كانت عرضة لاستخدام أدوات غير اقتصادية، سياسية، للضغط عليها للتضحية من أجل تحقيق «حلول» وهمية لا تخدم الخروج من الأزمة الحالية فعلاً، بقدر ما تخدم أغراضاً سياسية انتخابية للإدارة الأميركية الحالية.
[1] راجع صحيفة «Les Echos» الفرنسية، 10 أكتوبر/ تشرين الأول .2008
[2] انظر صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية،10 أكتوبر/ تشرين الأول .2008
[3] راجع: صحيفة «Der Standard» النمساوية، 10 أكتوبر/ تشرين الأول .2008
[4] لمزيد من الاطلاع، راجع الوصلة:
http://worldcrisis.ru/crisis/428350
الوقت 13 أكتوبر 2008