كان على المجتمعات، حكومات وشعوباً، أن تدفع ثمناً باهظاً لكي تختبر الليبرالية الجديدة حظوظها في التطبيق، منذ أن وضع الثنائي الشهير ريغان – تاتشر قواعدها في الممارسة.
المحللون يصفون هذه السياسة بأصولية السوق، التي وجدت تعبيرات لها في مفردات من نوع: الخصخصة، والتحرير، والبنوك المركزية المستقلة التي تركز على التضخم. وأكبر المتضررين من ذلك كانت الفئات الأقل دخلاً والأكثر بذلاً للجهد، وحين أضرب عمال المناجم في بريطانيا، لا عن العمل وحده، وإنما عن الطعام أيضاً احتجاجاً على سياسة تاتشر قالت قولتها الشهيرة: ” دعهم يموتون “، بدل أن تخوض الحكومة مفاوضات معهم حول مطالبهم، كما جرت العادة في التعامل مع حق الإضراب لبلوغ تسويات بين النقابات وأرباب العمل في اتجاه تحسين ظروف العمل وزيادة الرواتب وحماية الضمانات الاجتماعية وتطويرها. لكن هذا الحق أوشك على المصادرة بالطريقة التي تعاطت بها تاتشر يومها مع المضربين، وأسس ذلك لعهدٍ جديد أصبحت فيه الحريات العامة المكتسبة كلها في خطر، حيث فُرضت تشريعات وتدابير مست من الحريات العامة، وجرى فيها انتهاك الحياة الشخصية وكرامة المواطنين.
أنها أزمات بنيوية، وليست مظاهر عابرة يمكن تسويتها، كما يحاول البعض إيهامنا، وأن العالم كله يتضرر من آثارها، كما تضرر من سياسة الهيمنة والعدوان واحتلال أراضي البلدان الأخرى، ودعم أنظمة الاستبداد، ومجمل النهج القائم على الغطرسة والاستخفاف بالتضاريس الثقافية والفروقات الحضارية في العالم، وإخضاعه بالقوة لنهج لا يحظى بالقبول لدى قطاعات تعد بالمليارات من البشر.
في عام 1987 طرح بل كيندي أطروحة فحواها ” أن التوسع الإمبريالي المفرط ” يمكن أن يكون عبئاً على الولايات المتحدة، كما حدث قبل ذلك لبريطانيا. وبناء على هذه الأطروحة بالذات قام بعض المحللين بالمقارنة بين ” واشنطن دي سي ” وبين روما الإمبراطورية ولندن القرن التاسع عشر، ليثبتوا أن تلك العاصمة المتغطرسة، المتعجرفة لإمبراطورية منهارة تحكمها نخبة فاسدة محصنة. ” إن كثيرا مما حدث حينذاك يحدث الآن ” هكذا كتب أحدهم، مُلاحظاً شدة الاستقطاب الاقتصادي واضمحلال الطبقة الوسطى وانتشار الترف، مستنتجاً أن ” أعراض الاضمحلال تقف دليلاً على الاضمحلال ذاته”.
وتبدو الإجراءات السياسية للتعامل مع هذا الوضع أكثر سلطوية، مع تنامٍ في القوة البوليسية وانتشار العداوات العرقية وأعمال التمرد وقمع الحريات الشخصية. هذا النفس التشاؤمي لا يأتي من هواجس مَرضية أو من مواقف عدائية، لأن الحديث عائد لمؤلفين أمريكان يُحبون وطنهم ويخشون عليه، ومن طبيعة الباحث ذي الحاسة النقدية أن يدفع باستنتاجاته حد التشاؤم لأنه يرى أبعد مما تراه النظرة العجلى التي تبشر ولا تحذر. منذ أكثر من عقدين كان كاتب أمريكي قد لاحظ أن أي ناشر ذكي يعنون الكتب التي تصدرها داره بما يشي بوجود أزمة في أمريكا، لكن آرثر هيرمان مؤلف كتاب ” فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي ” يرى أن هذه الرؤية التشاؤمية تشبه كل الرؤى الخاصة بمستقبل أمريكا.
هناك الكثير الذي يدعو إلى مثل هذا التشاؤم، خاصة مع الأزمة المالية المدمرة التي تعصف بها، وبالنتيجة بالعالم كله، وتدفع إلى حالٍ من التشوش العميق وعدم الثقة في المستقبل.