بين ردود الفعل الكثيرة التي تلقيتها حول الحلقة الأولى من هذا المقال، أودُ الإشارةَ إلى ما كتبه لي الكاتب الشاب خالد المطوع من أن الموضوع ذكّرهُ بمسرحية المؤرخ الأمريكي هوارد زن: »ماركس في أمريكا«. الكاتب اللبناني الراحل عصام محفوظ نقل هذا النص الجميل من ترجمته الفرنسية إلى اللغة العربية، ليصدر عن دار الفارابي في بيروت عام ٥٠٠٢، وهوارد زن، شأنه شأن الكثيرين ممن أشرت إلى بعضهم في الحلقة السابقة لم يكن ماركسياً، واللافت أيضاً أن عصام محفوظ يُشير في مقدمة الترجمة العربية إلى أن الناشر الفرنسي قال: إن كون النص تُرجم ونُشر في فرنسا على يد غير الماركسيين يؤكد أن المسرحية تُخاطب وجدان غالبية المواطنين الذين هُم في طريق الاستعباد الكامل للتوحش الرأسمالي. أما هوارد زن نفسه فيقول: انه بهذا العمل المسرحي أراد أن يُنقذ ماركس من التشويه الذي لحق به من قبل المحللين والمنظرين الذين شاءوا توحيد الماركسية بالأنظمة القمعية، وأن يجعل ماركس يُبدي غضبه إزاء الذين استغلوا فكره لغير الغاية منه. تتخيل المسرحية أن ماركس قد بُعث اليوم من قبره وذهب إلى أمريكا بالذات، موقع الرأسمالية المعاصرة الأول، ليجد أن الصحف الصادرة تؤكد أن أفكاره قد ماتت، مُلاحظاً أن هذا الأمر يتكرر منذ أكثر من مائة سنة، قائلا: »ألا تتساءلون معي لماذا يضطر هؤلاء المهرجون لتكرار إعلان موتي، طالما كُنت قد مت بالنسبة لهم؟!«. في المسرحية يُخاطب ماركس الجمهور قائلاً: »صُحفكم تقول إن أفكاري قد ماتت، لكن اسمعوا معي هذا الخبر المنشور في صحيفة اليوم: أقل من خمسمائة شخص يتداولون حوالي مليارين من الدولارات كأسهمٍ تجارية، هل هؤلاء أفضل من الآخرين أو أكثر نبلاً، أم لأنهم يكدون في العمل أكثر من غيرهم؟ هل هم أكثر نفعاً للمجتمع من أم لثلاثة أطفال لا تقوى على دفع فاتورة التدفئة في الشتاء؟ ألم أقل لكم قبل قرن ونصف القرن، أن الرأسمالية سوف تُضاعف الثروة العامة، لكنها ستحصر هذه الثروة أكثر فأكثر بأيدٍ أقل فأقل«. خصم الماركسية اللدود جاك دريدا أيقن في نهاية حياته أن لا مناص من التصالح مع أفكار ماركس، ففاجأ الجميع بكتابه الشهير: »أطياف ماركس«، مؤكدا أن العودة لماركس ضرورية لمواجهة التوحش الرأسمالي. المنصفون من المحللين يدركون أن ما قاله ماركس في القرن التاسع عشر، وهو يحلل الرأسمالية، تتبدى صحته بسطوع في الأزمة المالية العالمية الحالية التي تحولت إلى انهيار اقتصادي، مؤكدة فشل أيديولوجيا السوق الحرة العالمية غير المنضبطة، وتجبر حتى حكومة الولايات المتحدة على اتخاذ إجراءات عامة منسية منذ الثلاثينيات. الضغوط السياسية تُضعف من الآن التزام حكومات الاقتصاد الليبرالي الجديد نحو عولمة غير مراقبة، غير محدودة وغير منظمة. في وصف وقع الأفكار الاشتراكية تقول الجملة الأولى لـ »المانفيستو« الصادر في منتصف القرن التاسع عشر، وبالعبارات البليغة لماركس: »شبح يطوف في أوروبا اتحدت في وجهه قوى أوروبا القديمة كلها: البابا والقيصر، المحافظون الفرنسيون والبوليس الألماني«. وبعد مائة وستين عاماً بالتمام والكمال، فان شبح هذه الأفكار، وهي تخرج من تحت الرماد نافضةً عنها غبار الجمود، ما انفك يُقلق كل القوى التي تستحوذ على السلطات والثروات. أكاديمي غربي بارز يقول: بالنسبة إلى أي شخص مهتم في الأفكار، أكان طالباً جامعياً أم لا، من الواضح تماماً أن ماركس سيظل واحداً من أعظم العقول الفلسفية والمحللين الاقتصاديين في القرن التاسع عشر. من المهم أيضاً قراءة ماركس لأنه لا يمكن فهم العالم الذي نعيش فيه اليوم من دون أثر كتاباته في عالم اليوم. وأخيراً، يجب أن نقرأه لأنّ العالم، كما كتب بنفسه، لا يمكن أن يتغير بشكل فعّال إلا إذا فُهم. ما فعله الفلاسفة حتى الآن، يقول ماركس في إحدى أطروحاته عن فيورباخ، هو تفسير العالم، فيما المطلوب هو تغييره.
صحيفة الايام
12 اكتوبر 2008