الحرب كالنار الآكلة للأخضر واليابس، فهي تظل تلتهم كل ما يخصص لها من نفقات لتطلب المزيد فتأتي على موارد الثروة حتى يقرر مشعلوها والمتورطون فيها وضع حد لها ولأوزارها، كما النار لا تُطفأ إلا بسكب الماء عليها.
ونتذكر هنا كيف حولت الحرب الكورية (1950-1953) التي سعت إليها وأشعلتها الولايات المتحدة، ومن بعدها مباشرة إشعالها للحروب الاستعمارية في الهند الصينية (فييتنام وكمبوديا ولاوس والتي انتهت بهزيمة أمريكية نكراء) – نتذكر كيف حولت هذه الحروب الولايات المتحدة من دولة تحتكم بعد نهاية الحرب الكونية الثانية (1945) على 60٪ من احتياطي الذهب العالمي وتتمتع بفوائض في ميزان مدفوعاتها وموازنتها العامة، وبعملة تتربع على عرش النظام النقدي العالمي، إلى دولة مستنزفة تبخر معظم احتياطيها الذهبي (هبط إلى 12٪) وتعاني من عجز متفاقم في ميزان مدفوعاتها وموازنتها، الأمر الذي عكس نفسه على عملتها الوطنية ففقدت ميزتها كعملة العملات العالمية (بموجب معاهدة بريتون وودز لعام 1944) واضطُرت في عهد الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون (الذي أسهم بقسطه في إغراق بلاده واقتصادها في المستنقع الفييتنامي) لخفض قيمة عملتها، وهو ما دشن مرحلة التراجع ‘المنظم’ للاقتصاد الأمريكي على الصعيد الدولي.
ولأن الحروب، العلنية منها والسرية، بحاجة إلى تمويل منتظم، غير منقطع، فإن تدبيره من جانب القوى المتورطة في الحرب وفي إدارتها، يتم عادة بصور مشروعة، عبر القنوات الرسمية لأطراف الحرب، أو غير مشروعة في حال اضطُرت بعض جماعات الضغط التي تقف وراء استمرار الحرب، لسلوك هذا الطريق إذا ما ضاق عليها خناق التمويل المستمر. ومثال ذلك الصفقة السرية الخاصة بتمويل شراء الأسلحة التي رتبتها إدارة الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان لصالح ميليشيات الكونترا التي كانت تحارب في ثمانينيات القرن الماضي نظام الساندينستا في نيكاراغوا والتي شملت أكثر من طرف دولي من إيران وإسرائيل إلى مافيا تهريب المخدرات.
على هذا الأساس يكتسب تمويل العمليات القتالية والحرب بالإجمال أهمية محورية في كل الصراعات الساخنة مهما كان شأنها كبيراً أو ضئيلاً.
وهذا بالذات ما يثير تساؤلات وجيهة ومحيرة حول قدرة حركة طالبان والقاعدة في أفغانستان على مواصلة الحرب ضد الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكذلك قدرة المليشيات المسلحة الصومالية على مواصلة الحرب طوال هذه السنوات (حوالي 17 سنة) ضد بعضها بعضاً وضد القوات الأجنبية التي ‘سولت لها نفسها’ التورط في المستنقع الصومالي بحثاً عن موطئ قدم ومغنم ذهب (تتوفر الصومال على احتياطيات مثبتة وأخرى تقديرية من النفط واليورانيوم).
مما لاشك فيه أن لدى حركة طالبان خطوط تمويل عينية ومالية من مصادر محلية (أفغانية) وإقليمية ودولية. فهي تقوم مقام الدولة في المناطق التي تسيطر عليها في أفغانستان لفترات متفاوتة في جمع الاتوات والاستيلاء على أصول المرافق الحكومية، كما تتلقى ‘العطايا’ من أصحاب الأملاك نظير ضمان أمن ممتلكاتهم وسلاسة خطوط تجارتهم الداخلية والخارجية.
وهي إلى جانب هذا وذاك تتلقى المساعدات الطوعية من رجال القبائل الأفغانية الموالين والمناصرين لها.
أما إقليمياً فإنها تتلقى الأسلحة والمعدات العسكرية من الجيش الباكستاني الذي إما أن يقوم كبار ضباطه بتهريبها من مخازن الجيش الباكستاني أو تدبير شرائها من سوق السلاح الرائج على الحدود بين أفغانستان وباكستان. وقد كُشف النقاب مؤخراً عن تورط الجيش الباكستاني في تمويل حرب طالبان في أفغانستان مالياً وعسكرياً، وهو أمر لم يكن ليتم دون معرفة وتواطؤ أجهزة مخابرات الجيش والمخابرات العامة الباكستانية.
كما أن التمويل المالي لازال يصل إلى حركة طالبان والقاعدة من مناطق مختلفة من الشرق الأوسط والعالم عبر شبكة أمان لواجهات تجارية وخيرية وذلك رغم الحظر والمراقبة الدوليين المفروضة على حركة تدفقات الأموال إلى الجماعات الإرهابية من مجلس الأمن الدولي ومن الدول الكبرى الرئيسية ذات النفوذ الواسع في النظام المصرفي العالمي.
إلا أن هذه الرقابة الشديدة على التدفقات النقدية الداخلية والتي رتبت التزاماً قانونياً على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بضرورة الالتزام بها، قد أثرت بلا شك على حجم وانتظام تدفق الأموال على طالبان والقاعدة. فكان لابد من البحث عن طرق ملتوية وأخرى غير مشروعة لتدبير الأموال اللازمة لتمويل الحرب التي يخوضانها. وكانت العودة لزراعة المخدرات وتصديرها لأسواق الاستهلاك في أوروبا والولايات المتحدة.
أما الميليشيات الصومالية التي يوالي كل منها قبيلة أو جهة نفوذ إقليمية أو دولية معينة، والتي حولت هذا البلد العربي الأفريقي الفقير إلى إقطاعيات خربة تعيث فيها العصابات المسلحة من كل لون فساداً وفجوراً بأسماء ويافطات مختلفة، فقد ‘اهتدت’ في ضوء الانهيار التام لمقومات الدولة الباسطة سيادتها على حدودها الجغرافية، إلى أسلوب ‘مبتكر’ بمقاييس القرن الحادي والعشرين، وهو في الواقع مستعار من القرون الماضية ما بعد الوسيطة. انه القرصنة البحرية (Sea Piracy) التي شاعت وازدهرت ‘صناعتها’ في الصومال السنتين الأخيرتين، والتي بلغ عدد عملياتها هذا العام فقط 60 عملية قرصنة.
ولولا العمليـة الأخـيرة التي تم خـلالها اختطاف سـفينة الشحـن الأوكرانية (MV Faina) في خليج عدن وخفرها إلى مراسي القراصنة إما في قرية إيل (Eyl) بمقاطعة ‘بانت لاند’ (Puntland) في الشمال الشرقي أو إلى مدينة القرصنة هاراديري (Haradheere) في الجنوب وذلك بالنظر لطبيعة حمولة السفينة، حيث كانت تنقل 33 دبابة تي-72 الروسية الصنع ومدافع مضادة للطائرات ومنصات إطلاق قذائف ومعدات عسكرية أخرى خفيفة يقال إن جهتها النهائية كانت جنوب السودان (بحسب مانيفستو البضاعة المشحونة) مع أن كينيا أعلنت تبعية الشحنة لها، ما قد يعني انها صفقة مقايضة مقابل نفط سوداني رخيص – لولا هذه العملية لما كان العالم التفت إلى هذه الظاهرة التي باتت تهدد الملاحة البحرية في خليج عدن الذي يمر خلاله 10٪ من التجارة الدولية.
وتقدر مصادر الأمم المتحدة حجم مبالغ الفدية التي دُفعت للقراصنة الصوماليين هذا العام فقط بحوالي مائة مليون دولار (علماً بأن ميزانية مساعدات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للصومال لا تتجاوز 14 مليون دولار).
لقد تحولت القرصنة إلى قطاع أعمال يدر الملايين على رواده من أعضاء هذه العصابات المنظمة وإلى مهنة لكل من يسعى لانتشال نفسه من حالة البؤس والشقاء التي تردت إليها غالبية الشعب الصومالي (تقدر الأمم المتحدة ان 2,3 مليون من الصوماليين يعتمدون على المساعدات الغذائية الدولية) والتمتع بالثروة والجاه والنفوذ وسط عشيرته ومحلته. ومع أنه لم يثبت بعد ارتباط هذه العصابات بالمليشيات الإسلامية بصورة مباشرة، إلا أن الأكيد ان عصابات القرصنة تدفع خوات للميليشيات المسيطرة على الشريط الساحلي الصومالي ومنها مليشيات الشباب والمحاكم الإسلامية التي سيطرت مؤخراً على ميناء مدينة كيسمايو الجنوبية، إضافة إلى تسهيل هذه العصابات وصول الأسلحة إلى المليشيات التي أسهمت بقسطها في تحويل الصومال إلى مرتع للعصابات الإجرامية وملاذاً للإرهابيين الباحثين عن مأوى لا تطاله الملاحقات الإقليمية والدولية.
انها ظاهرة أخرى تتحدى النظام الدولي وأسياده الكبار الذين لا تنقصهم المشاكل هذه الأيام.
الوطن 11 أكتوبر 2008