كان النظامُ العراقي السابقُ يمثل مركزيةً قوية شديدة ضد مكونات المجتمع العراقي، وحين انهار عادت هذه المكونات إلى سابق عهدها فيما قبل الدولة المركزية. لقد عاد المجتمعُ الإقطاعي المتحركُ صوب الرأسمالية بفوضوية وبغير عقلانية إلى تجمعاته الدينية والعشائرية والمناطقية المختلفة، بكل إرثها المحافظ المتخلف، فظهرت كياناتُ الجنوبِ والوسط والشمال. وإذا كان الشمالُ الكردي تسيطر عليه القوميةُ الكردية، وهي الممنوعةُ من تشكيلِ وطنٍ قومي لها، فتظلُ مترجرجةً بين الكيان الوطني العراقي وكيانٍ قومي مُفترض ومرفوض إقليميا وعالميا، فإن الكيانين العربيين الجنوبي والوسطي اللذين كان توحدهما القوميةُ العربية صارا كيانين مذهبيين سياسيين منفصلين يفرقهما ما يُزعم إنه إسلام عبر ارتكاز النظام السابق على منطقة وطائفة من دون منطقة وطائفة أخريين.
لقد كونت الدولةَ العراقية خلال نصف قرن الماضي الفئةُ البيروقراطية العسكرية والمدنية المتحالفة مع كبار التجار والمستثمرين وملاك الأرض ورؤساء العشائر، وتمثل ذلك في جهاز الدولة العسكري خاصةً وحزب البعث، ولم تكن لهذه الفئات استقلالية عن الجهازين العسكري والسياسي، أو قدرة على إنتاج ثقافة وطنية تصهرُ الشعبَ في كلٍ موحد، بل على العكس فارق الشعبُ الثقافةَ الشعارية السياسية المنتجة من قبل النظام، بسبب إدخالها إياه في حروب كارثية وقمع وتشرد ثم حصار، فكانت الهزيمة العسكرية إعلاناً بتمزقِ كل شيء، وكل رابطة توحيدية. وخلال الضربة العسكرية وتصفية الوجود المادي للنظام السابق، تشكلت قوى سياسية جديدة متنفذة من سرقة أموال الدولة السابقة ومن خلال النهب السريع الواسع للثروة الوطنية، فتشكلت مجموعاتٌ استولت (على الأراضي ووزعتها على المؤيدين لها)، (من كتاب الاحتلال الأمريكي وانهيار الدولة العراقية، للباحث د. لطفي حاتم).
وفي تحليل للحزب الشيوعي العراقي اعتبر عمليات النهب تلك صادرةً عن قوى إجرامية غير محددة الهوية الاجتماعية. ظهرت مرجعيتان كبريان هما المرجعية العشائرية والمرجعية الدينية احتلت الأقاليم الثلاثة، فقد سبق للإقليم الكردي أن جعلهما مسيطرتين لكن من خلال الحزبين الكرديين المهيمنين. وبناءً على تحولهما إلى أساس سياسي للدولة العراقية الجديدة، فقد انتفت المرجعيةُ الديمقراطيةُ المفترضة من تكوين يُقام على أساس مذهبي مناطقي، فمن يعينُ النوابَ حقيقةً هو المرجعيات الطائفية، وليس الانتخاب الحر في بلد يمتلك فيه المواطنون الحرية السياسية والعيش المستقر. وبهذا فقد تم وضع الأساس لانقسام العراق إلى دول ثلاث، فظهرت كياناتٌ إدارية لهذه الدويلات، وظهر كذلك كيانٌ حكومي موحد، هو تجميعٌ للكيانات الثلاثة على صعيد العاصمة، فهي تشكيلات سياسية فوقية إذا امتدت للجمهور تمتد كجذور مذهبية وإقطاعية متعددة المشارب.
واعتبرت القوى المؤثرةُ ذلك الانقسام بكونه فيدرالية، أي أنه ثلاثة أقاليم مستقلة في بعض الخدمات ولكن تبقى هناك دولة مركزية وأساسها الجيش والبرلمان الموحد وغير ذلك من المؤسسات الاتحادية، لكن ذلك يبقى نصوصاً مكتوبة وليس واقعاً إلا إذا استطاعت المؤسسات التوحيدية أن تشكل جيشا وطنيا حقيقيا. لم يظهر عراقُ الطائفية والعشائرية الراهن كجسمٍ سوداوي سحري ظهر من باطن الأرض فجأة، بل تشكل خلال العقود الأخيرة ببطء، وكان موجوداً في كل المكونات الاجتماعية والثقافية. لقد كان حزبُ البعث المفترض كجسمٍ سياسي علماني قومي ينزلقُ نحو هذا اليمين المحافظ بصورة مستمرة، فكان عداؤه التاريخي للحزب الشيوعي العراقي، هو وليدُ الرغبة في المنافسة لتيار يساري جماهيري، عبر تصفيته وإزالة القضايا التي يطرحُها وبركوبِ ظهر العسكر والعشائر، ومن هنا كان احتضانه قيادة عفلق التي خرجت من سوريا المتجهة لليسار وقتذاك، ورسخ الحزبُ البعثي نفسه بين العسكر والقبائل والطوائف، أي كل ما هو محافظ، وكانت المذابح التي كرسها، وأجهزة القمع الواسعة والإفساد للثقافة الوطنية والقومية، كانت هي كلها تضعه ملكاً لقيادةٍ مغامرة. (كان صراع الاشتراكية والرأسمالية المزعوم يجري بشكل مميت في العراق). وقد ظهرت القيادة المغامرة حين عاد صدامُ الذي قيل إنه ارتبط في القاهرة بالمخابرات الأمريكية، وحين صعد تم الهجوم حتى على بذور الحداثة التي شكلها الحزبُ في تاريخه الطويل. لقد توجه لضرب تحرك العراق نحو الحداثة و(الاشتراكية) لكي ينضم إلى اليمين العربي الإقطاعي وكانت أغلبُ خطواته استدعاء مستمرا للاستعمار الأمريكي في منطقة الخليج خاصة. وكان التعجيل المستمر الذي يطالب به الحزب الشيوعي قد أسهم في المنافسة الضارية بين الجماعتين التحديثيتين، التي كان يُفترض أن يمثل البرجوازية فيها البعثُ ويمثل العمالُ الحزب الشيوعي، ولكن الميراث الدكتاتوري العنيف منع مقاربتيهما المختلفتين طبقة، المتحدتين حداثة.
إن البعثَ في توجههِ نحو اليمين ارتبط بالموروثِ السني المحافظ، العسكري، كما كونهُ الإقطاعُ المذهبي خلال القرون السابقة، فغدتْ القوميةُ العربية بدويةً عشائرية، وارستقراطية، وأعادتْ تاريخَ الغزو والأسلاب، المتحد مع تكنولوجيا النابالم والأسلحة الكيماوية. ومن جهة اليسار فقد راح يذوب في الطوائف والأقليات المقموعة، من دون أن تتيح له الشروط الموضوعية أو وعيه، أن يجمع بين اليسار واليمين، بين السنة والشيعة، بين الشمال والجنوب، في تيار نضالي مشترك، فصار في ذيل الأحداث والقوى المذهبية السياسية الطافحة.
إن القوةَ الكبرى المستفيدةَ خلال ذلك كله هي حكومات الولايات المتحدة المتتابعة، فكان صدامُ وتاريخُ الحماقة الوطنية والنزاعات المذهبية والمراهقة اليسارية، هي كلها الجذور الدموية التي أنتجت تفاحة العراق الناضجة دماً ونفطه ومنطقته الإستراتيجية والقواعد الكثيرة وحاملات الطائرات. لقد حدث التآكلُ السياسي في حزبي العمال والبرجوازية الوطنيين، الشيوعي والبعث، وهو نتيجةٌ للتآكل وعدم معرفة الجذور في الجنوب الشيعي والوسط السني، أي في عجز المذهبية المحافظة والقوموية المتعصبة، والاستيراد الفكري من الخارج عن إنتاج مؤسسات وطنية عقلانية ديمقراطية، بمعنى ان العربَ المسلمين عجزوا عن تشكيل سلطة ديمقراطية توزعُ فوائضَ النفط بين الأقاليم الثلاثة، وأن تشكلَ نهضةً، وغدت رأسماليةُ الدولة التي تحولت إلى تنينٍ بعد التأميم، قوةً كبيرة تلتهمُ البشرَ أكثر مما تحُدث الزراعة وتساعد البدو على الانتقال للحداثة، وتعطي مزارعي الجنوبِ الأراضي والمساعدات.
لقد توهم كلُ طرفٍ من المسلمين أن الطرف الآخر هو المسؤول عن الكارثة الوطنية، ومع إزالة القوى التحديثية المعارضة، بقيت المجالسُ العشائرية والكيانات المذهبية هي المغناطيس الذي يجذب برادة الحديد الذائب التائهة.
أخبار الخليج 10 أكتوبر 2008