أعرف أن العنوان أعلاه سيبدو صادماً لكل الذين ظنوا أن أفكار ماركس قد قُبرت للأبد، وأن قائمةً لها لن تقوم أبداً. اعرف أيضاً أن العنوان أعلاه بالنسبة لآخرين سيبدو موضوعاً للتندر والسخرية، ولسان حالهم يقول: ألا تتعظون؟، هل من مجنون يصدق أن ماركس عائد إلينا بعد ما جرى في الاتحاد السوفيتي ومحيطه في أوروبا الشرقية، وهناك من سيرى أيضا في العنوان دعوة للشمولية السياسية والاقتصادية، وحنين إلى زمن مضى ولن يعود. لطمأنة هؤلاء جميعاً وتهدئة روعهم، نقول أن من يتحدث عن هذه العودة المحققة لماركس ليس اليساريين ولا بقاياهم، وإنما عتاة الرأسماليين، والأكاديميون المستقلون الرصينون الذين لم يكونوا يوماً أعضاء في أحزاب يسارية، بل لعلهم على خصومة مع هذه الأحزاب. وإمعاناً في الطمأنة نقول أن الزمن الماضي لن يعود، والشمولية التي انهارت لن تعود هي الأخرى، دون أن ننسى أن شمولية الاقتصاد الحر أشد بشاعة من تلك التي سقطت في البلدان الاشتراكية السابقة. الكاتب المصري أحمد الخميس نقل عن مواطن روسي بسيط القول التالي:»الاشتراكية أعطتني سروالاً واحداً فقط لألبسه، فيا للبؤس، لكن اقتصاد السوق الذي حل بعدها نزع مني حتى هذا السروال الوحيد.« وفيما يتبارى بعض الماركسيين السابقين الذين شقت أصواتهم عنان السماء وهم يهتفون بها في أزمنة صعودها، في إظهار براءتهم منها، وسخريتهم من ماضيهم، وندمهم على ما أنفقوه من سنوات في قناعاتهم السابقة، متبارزين في خلع الجلد القديم، تارةً بارتداء القبعة الليبرالية الأنيقة، وتارةً أخرى بارتداء العمامة الاسلاموية، فان الأذكياء من الرأسماليين ومن أهل اليمين يعرفون حق المعرفة ما الذي تعنيه أفكار ماركس في عالم اليوم. في ألمانيا، وفي استطلاع للرأي موّلته شركة التلفزيون »زيد دي اف« لمعرفة أهم الشخصيات الألمانية في التاريخ، صوت أكثر من خمسمائة ألف مشاهد لماركس؛ فحل ثالثاً في التصنيف العام وأولاً في فئة »الأهميات الحالية«، فيما صوّت مستمعو برنامج »في وقتنا« على إذاعة »بي بي سي٤ لماركس بوصفه فيلسوفهم الأعظم. المفكّر جاك اتالي قال: »الرأسماليون وللمفارقة هم من يعيدون اكتشاف ماركس أكثر من غيرهم«. وتحدث عن دهشته عندما قال له رجل الأعمال والسياسي الليبرالي جورج سوروس »كنت اقرأ ماركس للتو وهناك أشياء باهرة كثيرة يقولها«. لا بأس من »بحرنة« الموضوع، صديقنا الكاتب القديرحافظ الشيخ الذي لا يجمعه كبير ود مع الماركسية، كتب منذ شهور قليلة قائلاً : »بالتأكيد أنّ كارل ماركس هو أدق مَنْ قدّم نقداً منهجيا للرأسمالية وأصولها وآثارها، وأيضاً لا شكّ أن الماركسيّة، على جُملة مناهجها واتجاهاتها ومذاهبها، هي في العصر الحديث أدقّ نقدٍ قد ظهر للرأسمالية«. وحافظ الشيخ إذ انتقد التطبيقات العملية للماركسية في الاتحاد السوفيتي وسواه قال: »أنّ فاشلاً في الحياة وبالغ الحُمق هو فقط مَنْ يقول أن الماركسية قد اندثرت، فهي فكرة خصيبة، شديدة الخصوبة، لا تزال تتوالد وتتناسل، لا في المستوى الأكاديمي وحسبُ والنظري، ولكنْ أيضاً في المستوى الآدمي البَشَري الحيّ، وهي فوق ذلك لا تزال في عديد من دول العالم الثالث تقارع الأنظمة الرأسمالية الوكالية، وتُنازلها في شجاعة تاريخية فريدة«. للحديث تتمة غداً.
صحيفة الايام
9 اكتوبر 2008