ثمة رواية جميلة اسمها »تاريخ حصار لشبونة« لكاتب اسمه خوسيه سارماجو ترجمها إلى العربية أ. سيد عبد الخالق. تدور أحداثها حول مصحح بروفات، أو من نسميه بالمدقق اللغوي، يخترق المألوف، فيقوم بتعديل حادثة من حوادث التاريخ في كتابٍ يُصححهُ بعنوان »تاريخ حصار لشبونة«، إذ يقرر وفقاً لترتيب الأحداث وطبيعتها وقراءته الخاصة لها، ان الصليبيين لم يساعدوا البرتغاليين في احتلال لشبونة واستردادها من أيدي المسلمين المغاربة في النصف الثاني من القرن الثاني عشر. بينما يؤكد الكتاب الذي يقوم بتصحيح بروفاته وكذلك عدد كبير من المراجع المشابهة مساعدة الصليبيين للبرتغال، فما كان منه إلا أن أضاف كلمة »لم« قبل الفعل »يساعد«، وبهذا انعكست الآية. ولما اكتشف الناشرون هذا التغيير الذي مر بسلام، رغم أنه قلب الحقائق رأساً على عقب، اقترحت عليه إحدى المسؤولات عن النشر أن يواصل كتابة تاريخ الحصار من الزاوية التي بدأ بها، ومن هنا يُشرع المدقق اللغوي في كتابة تاريخ البرتغال كله من جديد وفق رؤيته بدءاً من حصار لشبونة، ليبدأ هذا التاريخ بكلمة »لم« النافية التي أضافها عندما كان يصحح البروفات. يقول الكاتب إن خطأ مطبعياً واحداً قد يغيّر من وجه التاريخ كله، وهذا ما فعله هو شخصياً بسابق الإصرار والترصد في هذه الرواية، ليستفزنا على طرح السؤال الذي لا مناص منه: مَن الذي كتب التاريخ الذي درسناه وندرسه، وإلى أي مدى يمكن أن نثق بأن هذا التاريخ هو حقاً تأريخ لما جرى قبل عقود أو قبل قرون. وكم مَن هم على شاكلة المدقق اللغوي الذين قرروا أن يكتبوا تاريخاً يتسق وهواهم، فأضافوا إليه »لا« النافية حين أرادوا، أو حذفوا لاءات »مثلها« في أمكنة ووقائع أخرى من دون أن يلتفت إليهم أحد أو يعترض عليهم، تماماً كما حدث مع صاحبنا المدقق الذي صنع تاريخاً مغايراً من دون أن يجد من يقول له إن هذا غير صحيح، وإن الأمور لم تسر كما رواها هو، لأن الناس مشغولة عن التاريخ بقضايا الحاضر، أو لعلها مشغولة بأمور أخرى أقل أو أكثر أهمية من تلك الأمور التي نطلق عليها قضايا. إن الأمر يكمن قبل كل شيء في السؤال المهم: إلى أي مدى يجدر بنا الوثوق في الأشخاص حين يعالجون أحداثاً مجهولة أو يتعاملون مع الفراغات، أو تلك المناطق التي يطلق عليها في اللغة الروسية اسم البقع البيضاء في التاريخ، التي يتعين ملؤها بوقائع، مما يطرح مسألة أخلاقية على قدر كبير من التعقيد: من له الحق في ملء هذه البقع بالوقائع، ومن الذي يقرر أن هذه »الوقائع« قد وقعت فعلاً، في حين أنها قد لا تعدو كونها تخيلات أو تخمينات أو استنتاجات يغلب عليها ما هو ذاتي. لعل التاريخ الحقيقي يقع في منطقة أخرى مجهولة لا نعرفها، وأن ما نسميه تاريخاً ليس هو بالضرورة كذلك، وأنه قد لا يعدو كونه اجتهاد فرد أو أفراد، مثل المدقق اللغوي في الرواية المذكورة، صاغوا لنا الأحداث وطلبوا منا أن نصدقها.
صحيفة الايام
8 اكتوبر 2008