حتى أمدٍ قريب جداً تعاطتْ الدبلوماسية العربية بصورة سلبية مع العراق الراهن، من منطلقات واعتبارات مختلفة، بينها خشية أنظمة عربية من أن تؤدي المساعدة في استقرار الوضع السياسي في هذا البلد إلى تمكين القوى الجديدة التي صعدت إلى صدارة المشهد السياسي هناك، بعد الاحتلال الأمريكي وسقوط النظام السابق. بعض النظام الرسمي العربي وثيق الصلة بالولايات المتحدة الأمريكية التي احتلت قواتها العراق، رأى مصلحةً له في عدم المساعدة على تثبيت الوضع الجديد الناشئ هناك، حتى تغرق واشنطن في الرمال المتحركة في العراق، فلا يعود بوسعها ممارسة ضغوط على أنظمة عربية أخرى حليفة لها في الجوهر، ولكن واشنطن، من حيث الشكل، تُطالبها بإدخال تعديلات على سياساتها. لسان حال النظام الرسمي العربي يكاد يقول: كلما تورطتْ واشنطن في المستنقع العراقي، أمكن تفادي ضغوط متوقعة منها على بلدان أخرى. الممثل الدائم السابق لجامعة الدول العربية في بغداد قدم استقالته احتجاجاً على عدم وجود رؤية للجامعة تجاه راهن ومستقبل الوضع هناك. ولا يمكن للجامعة العربية أن تُلام على غياب مثل هذه الرؤية، إذا تذكرنا أنه ليس في وسع الجامعة أن ترسم سياسة ما إزاء قضية بهذه الخطورة بمعزل عن رغبة وإرادة الدول العربية المحورية التي صنعت وتصنع سياسة الجامعة. لكن سرعان ما اتضح أن موقف الدبلوماسية العربية يفتقد للبصيرة، فليس العراقيون وحدهم من يتضرر من عدم الاستقرار السياسي والأمني في بلادهم، وإنما بقية الدول العربية، خاصة منها تلك التي تملك حدوداً مشتركة مع العراق، فـ »صناعة« الإرهاب في العراق، وفي بعض الحالات تصدير أشكال منه إلى أراضيه عبر الحدود، لا يمكن إلا أن ترتد بنتائجها على المحيط الإقليمي، العربي منه خاصة. بعض المحللين والمراقبين يتحدثون اليوم عن ظاهرة اسمها »العائدون من العراق«، على طريقة »العائدين من أفغانستان«، بعد خروج القوات السوفياتية من هناك، فكما شكل هؤلاء خطراً على أمن بلدان المصدر التي أتوا منها، بعد عودتهم، فإن نظراءهم، وقد يكونون هم أنفسهم، من العائدين من العراق بعد التحسن النسبي في الوضع الأمني هناك، باتوا يُشكلون مصدر خطر جديد على أمن بلدانهم. وهناك من يعزو بعض العمليات الإرهابية في كل من سوريا وشمالي لبنان واليمن إلى بعض هؤلاء العائدين الباحثين عن دور لهم. هناك بوادر تغيير في الدبلوماسية العربية، أو بعضها على الأقل، تمثلت في الزيارة التي قام بها وزير الخارجية المصري إلى بغداد مؤخراً، والتي سيسفر عنها إعادة فتح السفارة المصرية هناك، وهو أمر كانت البحرين قد فعلته مبكراً، رغم أن خروج القائم بالأعمال البحريني هناك منذ سنوات حدث بعد إصابته في عمل إرهابي. بعيداً عن الرغبات الدولية، والأمريكية منها خاصة، فان من مصلحة النظام الرسمي العربي العمل على الاستقرار الأمني والسياسي في العراق، بما يخلق أرضيةً أكثر مؤاتاة لسحب قوات الاحتلال الأمريكي، وتمكين العملية السياسية في البلد من أن تتطور بصورة سلسة، بما يعود بنتائج ايجابية على استقرار المنطقة كلها، وبما يضمن للعراق تواصله مع عمقه العربي، الذي لا يمكن تصور مستقبل العراق بدونه.
صحيفة الايام
7 اكتوبر 2008