بالأمس هبت الحكومة الأمريكية لإنقاذ شركتي الرهن العقاري ‘فاني ماي’ و’فريدي ماك’ من الإفلاس بعد أن هوت القيمة الإجمالية للأسهم العادية للشركتين من مائة مليار دولار نهاية العام الماضي إلى 10 مليارات دولار، وبعد أن اعترفت الشركتان بأنهما مُنيتا بخسائر تفوق السبعة عشرة مليار دولار على خلفية تورطهما مثل مئات الشركات والبنوك الأمريكية وغير الأمريكية في أزمة المضاربات على الرهونات العقارية الواسعة النطاق.
وبسرعة متناهية توافقت إدارة بوش والكونجرس على خطة للاستحواذ على الشركتين وضخ أموال حكومية فيهما وتجنيبهما مصير الانهيار.
ولم يمضِ وقت طويل حتى تكشفت خبايا انهيار حيتان القطاع المالي الأمريكي: ليمان براذرز وميريل لينش الذي ابتلعه بنك أوف أمريكا بقيمة 50 مليار دولار بعد أن ترنح تحت وطأة خسائر ورطة الديون المعدومة والأخرى المشكوك في تحصيلها لأزمة الرهونات العقارية، ومجموعة (American Insurance Group – AIG)التي أسعفتها الحكومة الأمريكية بقرض عاجل قدره 85 مليار دولار مدته سنتان مقابل تملك الحكومة الأمريكية لـ80٪ من حصة المجموعة. وأمام هذه الموجة العاتية من ردة فعل السوق على استمرار التعدي الرأسمالي الجشع على قوانينه التي هي قوانين الرأسمالية نفسها، لم تجد الديناصورات الوجلة على حياتها من سبيل سوى البحث عن حاضنات إما حكومية أو خاصة بالاندماج معها حتى ولو كانت منافسة، وعلى الرغم مما يشكله هذا التوجه من خرق فاضح لقوانين وتشريعات منع الاحتكار التي هي قوانين الرأسمالية المنظِّمة إياها.
لقد كانت الأيام الماضية حقاً أياماً سوداء بالنسبة لعشرات آلاف المستثمرين عبر العالم الذين تبخرت محافظهم في لمح البصر ولمئات آلاف العاملين الذين فقدوا وظائفهم ومثلهم المهددين بالمصير نفسه. وهكذا وجدت الحكومة الأمريكية نفسها أمام فضيحة رأسمالية مكشوفة ومدوية، فضيحة تتجاوز فضيحة شركة أنرون للطاقة (التي أشيع أن نائب الرئيس ديك تشيني والرئيس نفسه كانت لهما صلة ما بهما) والـ’وورلد دوت كوم’، وحتى ‘فاني ماي’ و’فريدي ماك’ و’ليمان برذرز’. وهي لذلك قررت التخلي عن التعامل مع الأزمة بالتجزئة أو بالتقسيط والاعتراف بشمولية وعمق الأزمة بعد أن انكشف مستورها بظهور النظام المالي الأمريكي على حقيقته وقد هدَّه إعياء المقامرات العقارية و’سيولة’ التمويلات البنكية غير المضمونة.
فكان قرارها، بإنشاء صندوق قومي للإغاثة المالية للشركات والمؤسسات الأمريكية المهددة بالإفلاس والأخرى المتعثرة بسبب الصعقة الكهربائية التي ضربت النظام الائتماني، بطاقة تمويلية تبلغ 700 مليار دولار.
وبالنظر لعمق الأزمة واحتمال اتساع نطاقها القطاعي والاقتصادي العالمي، فمن المؤكد والطبيعي أن يبقى صدى تناولها في الإعلام العالمي لبرهة من الزمن. إلا أننا نزعم أن القراءات الأولية لها لن تخرج عن التشخيص الأساس التالي:
1-إن الأزمة أكدت صحة القراءات السابقة بشأن هشاشة الوضع المالي الأمريكي المستندة إلى الاختلالات المهملة في الهيكل الاقتصادي المتجسدة في عجوزات الحساب الجاري والموازنة وتغذية النمو من خلال الشرَه الاستهلاكي المستفحل على حساب الادخار الوطني.
2-ونتيجة لذلك اختطت الرأسمالية الأمريكية لها نموذجاً يقوم على التمويل ‘الخارجي’ (غير الذاتي المستند إلى مصادر التمويل المحلية ومنها الادخار الوطني)، فكانت ظاهرة بنوك الاستثمار أو الأعمال مثل ليمان بروذرز ومورجان ستانلي وغولدمان ساكس وبنك أوف أمريكا وميريل لنتش، ‘اختراع’ أمريكي محض قبالة مصارف الودائع التقليدية. حيث أفرطت بنوك الأعمال هذه في المخاطرة إن لم نقل المغامرة الاستثمارية، إذ كانت تستثمر عشرة أضعاف ما كانت تقترضه من البنوك، خارقةً كل حدود الملاءة المالية التي حددها بنك التسويات الدولي في جنيف أو ما يعرف بقواعد بازل واحد وبازل اثنين للملاءة المالية (أي نسبة تغطية رأس المال للقروض).
3-إن رمز الرأسمالية غير المقيّدة (المنفلتة) وهي هنا الولايات المتحدة، التي تلتزم حرفياً بمبدأ الحرية الاقتصادية المطلقة لآدم سميث ‘دعه يعمل دعه يمر’، تاركةً ‘لليد الخفية’ (Invisible Hand) أي قوى السوق تصحيح نفسها بنفسها، إذا بها تنقلب على ‘دِينها’ الـ’نيوليبرالزم’، وتقوم حكومتها بأضخم عملية تدخل في الاقتصاد ما كان جون مينارد كينر، صاحب نظرية تدخل الدولة في الاقتصاد لتأمين التوازن المطلوب، ما كان يحلم بها. إذ عمدت إدارة بوش لأساليب هي أقرب إلى التأميم (الاستحواذ على حصة 80٪ من شركة AIG) وانخرطت في عملية شراء للمديونيات الصعبة (في حكم المعدومة) والمشكوك في تحصيلها لإنقاذ وحدات الاقتصاد من الانهيار.
4-الأدهى من ذلك أن تمويل ما سمي بصندوق الإنقاذ الوطني قد أُلقيَ عبؤه على دافعي الضرائب الأمريكيين وليس على الأرباح الطائلة التي تجنيها الشركات العملاقة والمستثمرين والمضاربين الذين جمعوا ثروات هائلة من عمليات القمار المفتوحة في أسواق المال الأمريكية. وهذه مقاربة أقل ما يقال عنها أنها غير عادلة، فكيف لطبقة الفقراء ومتوسطي الدخل أن يغرموا للأثرياء خسائرهم وهم الذين دفعوا الملايين لمدراء محافظهم الاستثمارية في البنوك والصناديق الاستثمارية من أجل مضاعفة أرباحهم؟!
5-لقد تحول الاقتصاد الأمريكي خصوصاً مع اتساع نطاق عولمة الأسواق المالية العالمية إلى اقتصاد تغذيه المضاربات ذات العمليات.
صحيفة الوطن
6 اكتوبر 2008