سيظل الفساد من الآفات التي تنخر مجتمعاتنا، والتي تقف بين الأسباب الرئيسية لهذا الانقسام المريع الذي نشهده بين غالبية فقيرة، معدمة، مهمشة ومحبطة، وبين الثراء الفاحش الذي يجد تعبيراته الفجة في مظاهر الترف والبذخ التي صارت مضرب الأمثال. وطبيعي أن الإنسان المسحوق الذي يلهث وراء لقمة العيش الكريمة لأطفاله وسط هذا الفساد يفقد بصيص الأمل في وضع أحسن، ويصاب بالقرف من كل الكلام عن العدالة الاجتماعية والقيم الذي يسمعه أو يقرأه ليلاً نهاراً من الأجهزة الإعلامية المختلفة. يدور الآن حديث عن »عولمة« الفساد، فمفاهيم من نوع اقتصاد السوق من دون ضوابط وحرية التجارة حتى أقصى حدودها وقيم الفرد المثابر الذي يجري وراء الثروة بأي وسيلة وسبيل تُنعش مثل هذه الظاهرة وتُعممها. وفي المؤتمرات العالمية التي تناقش هذه الظاهرة يجري التأكيد على »عالمية« هذه الظاهرة وتفاقمها، بحيث لم يعد من الممكن التستر عليها أو مداراتها، بسبب سهولة الوصول إلى البيانات والمعلومات في هذا العالم المفتوح. وفي عددٍ من البلدان العربية تنشط الآن جمعيات الشفافية ومكافحة الفساد التي صارت تدعو إلى الاعتراف بالفساد كظاهرة وعدم التستر عليه أو نفي وجوده عبر الادعاءات والتمويهات، والإقرار بأن هذا الفساد معوق أساسي من معوقات التنمية والتحولات الديمقراطية وحقوق الإنسان، والدعوة لإشاعة ثقافة وطنية تقوم على بث الوعي والجرأة والشجاعة في كشف حالات الفساد والمتورطين فيها، وكذلك الدعوة إلى عمل حكومي – أهلي مشترك من خلال أطر إقليمية تكون بمثابة رديف للأطر العالمية في مجال محاربة الظاهرة. على أن الفساد ليس مجرد خلل إداري يعالج بإجراءات إدارية، رغم أهمية كل تدابير الرقابة على أوجه الإنفاق العام، وإنما هو ظاهرة اجتماعية تعود إلى ضيق القاعدة الاجتماعية للسلطة في البلد المعني، مما يتطلب أن تدار الدول من قبل سلطات مختلفة ومستقلة عبر توسيع القاعدة الاجتماعية لهذه الحكومات، وتدريب نخبها على الأداء النزيه والحرص على حرمة المال العام، ووضع الحدود الفاصلة بين المال العام، العائد لما كان يطلق عليه في العهود الإسلامية الأولى بيت مال المسلمين، وبين المال الخاص. لزوم الفساد هو تعميمه ليصبح نهجاً متبعاً يغرق فيه الكل، فلا يعود بوسع أحد أن يحاسب أحدا، طالما كان الجميع متورطا فيه، ومن هنا جاء تعبير الفساد الصغير الذي غالبا ما يجاور الفساد الكبير ويستظل بظله، فالاستخدام السيئ للسلطة يشيع حالة عامة على أساسها ينخرط صغار الموظفين في تلقي الرشى، فتصبح الظاهرة عامة شاملة. ثمة رقم جدير بالعناية هو أن إسرائيل تحتل المرتبة الـ ٠٢ بين دول العالم التي تتمتع بالشفافية في مجال مكافحة الفساد، بشكل يعطيها ٧ درجات من ٠١، فيما غالبية الدول العربية لا تنال في أحسن الحالات ٤ درجات من ٠١ ودون ذلك! منذ أ٤١ قرنا صاغ الخليفة الراشد ذلك السؤال العظيم: »من أين لك هذا«؟، والذي بات فيما بعد بمثابة قاعدة قانونية لحفظ المال العام وحمايته من النهب ومنع سوء استخدام السلطة. من يجاسر اليوم بطرح هذا السؤال العظيم؟
صحيفة الايام
6 اكتوبر 2008