المنشور

مفارقةُ بينَ مُعَمَّمٍ عَصْريٍّ ومدنيٍّ نَصّيٍّ

يتنافس المسلمون السنة والشيعة سنويا مرتين في مبارزة معرفية عقيمة، ويتناطحون في جدل فقهيّ وعلميّ طويل وعويص. تتكرر القصة نفسها سنويا، لتطفو على السطح خلافات فقهية تاريخية ترجع إلى قرون غابرة، مرّها الاختلاف المذهبي/ الفقهي، الذي لا يبدو انه سيستقر إلى اتفاق محتمل، في أهم أمر ديني ألا وهو، ثبوتية بزوغ هلال شهري رمضان وشوال، الأمر الذي يرجع إلى وقتٍ لم يكن بمقدور البشر من خلال معارفهم العلمية المحدودة من الإثبات العلميّ القاطع على وجود الهلال الفعليّ حتى وإن لم تستطعْ العين المجردة من رؤيته لسبب من الأسباب.
والمعروف أن المسالة الفقهية الأساس التي تنظم عملية ثبوت رؤية الهلال بالعين المجردة تستند إلى الحديث النبوي الشريف والمشهور، ‘صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته’. وظلت الأمور هكذا حتى العصور الحديثة، حيث صار بمقدور العلم بما لا يقبل الشك إثبات وجود الهلال من عدم وجوده، وان لم يُرَ بالعين المجردة. ويبدو أن الأمر المستجد المهم لدى بعض فقهاء الدين المحدثين، وتفسيراتهم العصرية، وجوهر نهجهم التحليلي والتفسيري يتركز في مبدأ إمكانية التغاضي عن النصّ، الذي يرونه معرضا للتبديل عبر مرور الزمان، محاولين إيجادِ مخرجٍ فقهيّ للمسألة الخلافية هذه، الهادف إلى نقطتين هامتين: أولا: الاعتراف بالحقيقة العلمية الثابتة وان لم يكن بالإمكان رؤيتها. ثانيا: سيمهد هذا الاتفاق البيّن والضروريّ بين المسلمين لتعاون شامل فيما بينهم، الأمر الذي سيقربهم من روح العصر ويدخلهم – ولو متأخرا- إلى دنيا التنوير.
يتخذ المُعمّم العصريّ المجتهد والمشهور باعتداله، الشيخ الجليل السيد محمد حسين فضل الله، احد المراجع الشيعية في لبنان – منذ بعض الوقت – مواقف لا تتلاءم مع السائد من الثوابت. فمعيار المرجعية الجليلة لدى السيد محمد فضل الله متعلق بإمكانية رؤية الهلال في أي بلدٍ [1] ضمن زمن اليوم الواحد (عُرف بهلال شيلي في قارة أميركا الجنوبية). ليس هذا فحسب بل يكاد السيد فضل الله جريئا في اجتهاده إلى درجة (حسب مصادر المطلعين الأقرباء منه) يبدو وكأنه يريد أن يقول أو يوحي بإمكانية تجاوز المقدس المبالغ فيه من ‘النص’ في مصلحة الواقع الموضوعيّ/ العلميّ وسنة التطور الإنسانيّ والظروف المتغيرة أبدا. ويرى ضرورة ذلك لسببين أساسين أولهما: أولية الحقائق العلمية وسنة التطور والتغيير البشريين على التصورات المستندة على النصّ المرهون بزمانه وظروفه. وثانيهما: أحقية مبدأ اتفاق المسلمين وما له من مردود ايجابي يصبّ في مصلحتهم.. هذه المصلحة العمومية التي يجب أن تشكل جوهر الحق الإنساني والديني في كل زمان ومكان.
بالمقابل يستعرض الأكاديميون والاختصاصيون، المتبحرون في علوم الفلك والفيزياء الرياضية، في بسط معارفهم وعلومهم للمهتمين والقراء العاديين، محاولين الإثبات العلمي الدقيق لِلُحَيْظة ظهور أو نشوء الهلال في بدء كل شهر قمري والإمكانية الفعلية من رؤيته أو عدمه.. على أن جُلّهم، انطلاقا من المبدأ النصيّ في التفسيرات والأحكام الفقهية / الدينية، يستندون على ضرورة الرؤية بالعين المجردة (النص الفقهيّ للسّنة النبوية الشريفة).. ولعل أكثرهم بروزا وجدلا وثقة في حساباته الفلكية هو أستاذ الفيزياء التطبيقية بجامعة البحرين ونائب رئيس الجمعية الفلكية البحرينية، الدكتور وهيب عيسى الناصر.
فعلى سبيل المثال والمقارنات، قبل طرح موجزِ مساهمات الأستاذ الناصر.. لنشير أولا إلى شيء من آراء زملائه.. في هذا السياق يتساءل بحق الدكتور فؤاد شهاب أستاذ التاريخ المشارك في جامعة البحرين عن ‘سبب العشوائية في تحديد الهلال’، ويرى أن ذلك ‘من صنع القادة وأصحاب القرار’، أي انه يلمح من أن السبب سياسي وليس ديني.
أما رئيس الجمعية الفلكية البحرينية الدكتور ‘شوقي الدلال’ فيقول إن التاريخ الإسلامي لم يشهد اختلافات من هذا القبيل كأيامنا هذه وذلك بسبب أن الرؤية كانت الوسيلة الوحيدة لإثبات ظهور الهلال. وفي نفس السياق يقول رئيس قسم الفيزياء الأستاذ محمد العثمان من أن الإشكالية راجعة لاختلاف المعايير في الرؤية وليس بسبب حساب موقف الفلك المتفق عليه من قبل الجميع ولذلك فإن الاختلاف شكليّ بحت وليس حقيقياً، مضيفا من أن ظاهرة ‘الاقتران’ بين النهاية والبداية، تحدث عندما يكون مركز القمر والشمس لهما خط الطول الكسوفيّ نفسه. أما فيما يتعلق بفقيهنا الجليل رئيس المرصد الفلكي الإسلامي الشيخ محسن آل عصفور فإنه بعد أن يغلق كليا باب الاجتهاد في هذا الأمر ‘المطلق’ يدعو السيد محمد حسين فضل الله إلى مناظرة علنية مفتوحة عبر صحيفة ‘الوسط’ بكل شفافية وحياد في هذا الأمر الذي اعتبره من الثوابت الأبدية. ومن الجدير بالذكر في هذا الأمر الخلافيّ أن ‘المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث’ قد أكد أن العيد سيكون يوم الأربعاء.
دخل أستاذنا البحريني الأكثر حضورا وهيب الناصر في سجالات علمية وفقهية ونقاشات دقيقة تجاوز الإعلام المقروء والمسموع والمرئيّ إلى ندوة شاملة، أسهب فيها في إعادة طرح رؤيته الفلكية الدقيقة، منطلقا أساسا من التقويم الهجريّ الصحيح (كما يراه) مناشدا المراجع الفقهية السعودية لنقل وقائع تلقي الشهادات ونشر أسماء الشهود على الملأ متحديا من استحالة رؤية شهر شوال بالعين المجردة. ومؤكدا بنبرة العالم الواثق من أن العيد سيكون يوم الأربعاء. ومن هنا لابد أن نتصور مقدار خيبة أمله عندما أعلنت المملكة العربية السعودية ثبوتية رؤية الهلال، الأمر الذي لابد من فرض احتمالين لا ثالث لهما، إما أن الشهود في السعودية وغيرها من الدول الإسلامية قد تراءت لهم رؤية الهلال أو أن الحسابات العلمية الدقيقة للأستاذ ‘وهيب الناصر’ غير صحيحة.
وكما يلاحظ القارئ الكريم عبر متابعته للسجال الجاري من أن الإشكالية متأتية من أن ‘الجهتين’ لا يتحدثان لغتين مختلفين فحسب، بل ينطلقان من نهجين متباينين في التفكير والتحليل. ومن هنا فإن إثبات كل طرف لترجيح وجهة نظره ستكون نتائجها غير مقنعة بسبب عدم منهجية فروضه في الأساس. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا.. هل من المعقول أن يستمر المسلمون على هذه الحال في تشتتهم الفقهيّ والسياسيّ إلى درجة تبدو وكأن لكرتنا الأرضية ثلاثة أو أربعة توابع من أقمار؟ والنتيجة انه لا يوجد سبيل آخر للتحديث الفقهيّ والتقدم الاجتماعيّ للمسلمين إلا بمغادرة حدود النصِّ، وهو النهج الذي تمثل إرهاصاته المدرسة العصرية للفقيه السيد فضل الله خير تمثيل. لذلك لا غرو أن نجد هذه الكثرة من منتقديه، القادمين ليس فقط من جبهة رجال الدين وفقهائه المحافظين على المتراس المقدس، بل أيضا من جهة الأكاديميين المدنيين، النصّيين/ الشكلانيّين الذين لا يمكنهم أن يتسموا بجرأة الباحث المجرد من كل انحياز مسبق عدا الصدق العلميّ.
[1] لمزيد من الاطلاع على رأي السيد فضل الله وآراء بقية الأساتذة الجامعيين الواردة مقتطفات لهم في المقال، يمكن الرجوع الى الأعداد 2212 /2213 /2214 من صحيفة ‘الوسط’ البحرينية والعدد 954 من صحيفة ‘الوقت’.
 
صحيفة الوقت
5 اكتوبر 2008