موضوعنا الحقيقي ظاهرة الفساد وسوء استخدام الأموال العامة ونهبها بكل الوسائل المتاحة. سنتطرق إلى نموذجين كمدخل لموضوع أوسع يقود إلى كارثة في صلب المجتمع المدني الذي يؤسس منذ بداياته لقيم القانون واحترام الدولة والحقوق المصانة والتشريعات المعلنة. ولكن قبل الخوض في النموذجين نواجه سؤالا نظريا من حيث طبيعته حول تجارب الأمم الغنية بل وحتى الفقيرة الأكثر تلوثا بالفساد . هل يوجد بلد لم يتعرض لظاهرة أو حالة أو وضع لا يسود فيه اللعب بالأموال العامة أو حتى الخاصة ؟ وباستعراض شريط كل الأنظمة تكون الإجابة نفيا وإنما تكمن الإجابة في المفارقة »الكوميدية« بمقارنة نماذج الفساد وحجمها المروع كتساقط الأبنية أو تفشي بيع غذاء فاسد تسبب في تسميم الناس وغرق عبارات وتلاعب وارتشاء قضاة فساد بلغ حجمه التلاعب بحياة الناس ومصيرهم . كما لا يوجد حتى الان نظاما سياسيا لم تتعرض مؤسساته إلى سوء استخدام الأموال العامة سواء كانت أنظمة ديمقراطية عتيدة أو أنظمة عسكرية أو أي نوع كان بما فيها الأنظمة التي نهجت طريق الاشتراكية.
وإذا تطرقنا إلى نظم مثل كوريا الجنوبية أو الولايات المتحدة أو فرنسا وغيرها من دول تمارس القانون ومعرضة للمساءلة ومحاطة بأعين منظمات حقوقية كمنظمة الشفافية وسلطة رابعة كالصحافة فإنها كذلك تعرضت لهزات وفضائح وحالما تقع يتخلون عنك بكل بساطة ويقال لك نحن نحميك طالما لم ينكشف أمرك وكنا ننصحك أن تمارس اللعبة شريطة أن لا تقع في الفخ ولن نقف في صفك عندما تخرج المسألة من نطاقنا فهناك القضاء والقانون كسلطة عليا وخارج سلطة الجميع بل وإياك وان تسقط في قبضة ما هو اشد من البوليس، أنهم زمرة »المخبرين« الصحفيين فهؤلاء متى ما تناولوك فقل وداعا !. وبالرغم من ذلك تحاول بعض الأنظمة مداراة الفضيحة بالتحايل على القضاء والقانون بحجة »الحفاظ على الأمن القومي !« ولي عنق القانون مما يفقد الدولة أهم مرتكزات الشرعية وهو مصداقيتها أمام أعين الناس والمجتمع .
إن سرقات المال العام والانغماس بالفساد ( بصورة متناهية !!) مسألة لا تحتمل أخلاقيا واجتماعيا وسياسيا، فيما لو كان المجتمع يرتكز على مؤسسة شرعية كالحياة النيابية، ولكن الكارثة اكبر حينما يكون نائب الشعب فاسدا وهو الذي رفع شعار حملته الانتخابية »كافحوا الفساد« بل وأعلن من منصات تلك الحملة وبرنامجه الانتخابي : »إنني سأكافح الفساد وألاحقه في عقر داره« بينما كان نائبنا وزمرته في حضن الفساد ولياليه الراقصة . ترى لماذا نميز هنا درجة الفساد طالما ان السرقات والفساد أمر واحد ؟.
اعتقد أن لكل ظرف تاريخي أهمية مختلفة. فعندما يتم سرقة المال العام كانحدار أخلاقي في ظل لحظة تاريخية يمر فيها الوطن بكارثة كبرى، فان الوضع مختلف تماما. فالتلاعب بقوت الناس والتجارة في بضائع استراتيجية أثناء الحرب والمجاعة تقارب مستوى الخيانة العظمى. إذ يصبح كل قرش وكسرة خبز مهم لحياة الناس والدولة والمال العام .
الحالة الأولى حدثت ما بعد سقوط صدام، إذ تلاعبت أطراف في المال العام، وكان فيها الشعب العراقي وحكومته بحاجة ماسة لكل ورقة نقدية بل وكان فيها الناس في حالة معنوية صعبة وبائسة، فلا يجوز الضرب في جسد إنسان ينزف كان ابنا بارا للوطن. أما الحالة الثانية وجدناها في نموذج السلطة الفلسطينية، فإن السرقة تتم في سلطة لم تقف على قدميها بعد، وتتلقى المعونات الخارجية بالقطارة، بحيث امتدت يد الفاسدين إلى قوت الشعب ومست نفقات أساسية للمدرسة والخبز والمستشفى والدواء. تجاه ذلك النموذجين هناك نماذج عديدة لا يجوز أن يتجاوز الفرد فيها سقف القيم الكبرى في خيانة الوطن بصورة متوارية، ليس في تسليم نفسه للأعداء والشيطان، وإنما ممارسة هدم وطنه من الداخل . من هنا نميز الفرق بين دول في ظروف طبيعية تمارس فيها لعبة العمولات في أسواق حرة ومفتوحة »وشبه مشروعة ومبررة !!« طالما القيم السائدة هي قيم الرأسمالية »والفرص الذكية« »يا أخي خلك شاطر !«. فإذا كانت درجة السرقات للأموال العامة واحدة بسبب ملابساتها وظروفها فإن الردع والموقف الاجتماعي وردود فعله يكون منها اشد وطأة مثلما حدث في ألبانيا عندما تم سرقة أسهم وأوراق الناس ومدخراتهم. لماذا تكرس قيم أخلاقية بشعة اقرب لممارسات المافيات ؟ حيث يغيب الاستجواب والمساءلة في قضية عادلة وتحت مظلة دولة القانون ؟
مثل تلك الحوادث في عالم الفساد تجعلنا نعيد النظر في ظاهرة أعمق من الضروري تجنبها في المجتمعات الخليجية فهي تحمل في أحشائها ظواهر سلبية كتطلع شريحة من النخب الاجتماعية للثراء السريع بطرق سهلة وكسولة وملتوية، في ظل غياب القانون أو على اقل تقدير »استرخائه« الوظيفي وامتيازاته ورفاهيته . إذا نام القانون وغفلت الصحافة وصمت المجتمع المدني وتراجعت الدولة عن وظائفها استشرى كل أنواع النهش والغرف من المال العام وسرقته. لقد صار الفساد في منطقتنا »القطار المندفع بلا توقف ! وبات هناك كثر يرغبون الصعود إلى متن القطار. وبتعبير كريس باتن«، ربما يكون الفساد أكثر شيوعا في بعض الدول الآسيوية منه في الغرب، ومع ذلك علينا أن نكون حذرين من خداع أنفسنا بالتفكير في أن الفساد أمر غريب يحدث في أماكن أخرى وليس في باحة بيتنا الخلفية.
صحيفة الايام
5 اكتوبر 2008