كان حزبُ البعث العربي الاشتراكي يمثلُ النضال من أجل الحرية الوطنية والعلمانية في سوريا، لكن أخذت هذه الأهداف تتصدعُ مع تصاعد ملكية القطاع العام، أي رأسمالية الدولة التي تـُدار بطريقةٍ غير ديمقراطية. كان هذا يعني نمو القطاعات الاستغلالية في أجهزة الدولة المختلفة، وينعكسُ كذلك على الجبهة الوطنية التقدمية المتحالفة مع النظام البيروقراطي، وهو أمرٌ سوف يشهد التدهور الفكري لهذه القوى التي كانت يساريةً وانتقلتْ لصفوف اليمين. لم تعد المرتكزاتُ الفكريةُ اليسارية تسودُ في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، فهو قد مثّل ضربةً للجناح اليساري في هذا الحزب، وأكد دعم كبار التجار والرأسماليين الخائفين من تطرف جناح صلاح جديد، فلم تعدْ ركيزة الوقوف مع العاملين مهمة، بل صار لجم تطلعات هؤلاء العاملين للمزيد من رفع مستوى المعيشة، بدعوى المجابهة العسكرية القومية، وتراجعتْ الأحاديثُ عن الاشتراكية، لكن ذلك لم يحدث إلا بصورةٍ انزلاقيةٍ حذرة تبعاً للمهارة السياسية الكبيرة للأسد الأب، لعدمِ تصدع صفوف السلطة والجبهة الوطنية، والخوف من انفلات الجمهور العامل، فتم الحفاظ على مستوى دعم معين للمواد الغذائية ولخدمات القطاع العام وبعض مظاهر الدولة الأبوية.
كان عهد الأسد الأب هو عهد التوازنات بين اليمين واليسار، بين القطاع العام والقطاع الخاص، بين الشرق (الاشتراكي) والغرب الرأسمالي، بين عرب الثورة والجمهورية وعرب النفط والملكية. ولهذا فإن مسألةَ التخصيص لم تـُطرح بشكلٍ قوي وحاسم حينذاك، لكنها كانت تنمو على نارٍ هادئة، وقد رأينا في الحلقة السابقة كيف تجمدت ماكينة الدولة الاقتصادية. إن ذوبانَ وتآكلَ أيديولوجية الثورة العلمانية القومية كان لابد لهما من بديل، وفي ذلك الحين تفجرتْ الثورةُ الإيرانية ثم خطف رايتَها المحافظون الدينيون، وعمدتْ إلى تصعيد القطاع العام بذات الصورة السورية، لكن القطاع العام كان في سوريا يتجه إلى الانهيار، فليس تأثر سوريا بإيران لكونها شيعية بدرجة أولى بل لكونها ” محافظة ” شيعية بدرجة أساسية.
إن قيادةَ الدولة السورية الطالعة من الفئة العلوية هي فرعٌ من الفرق الشيعية الإمامية المتعددة، فوجدتْ إن غليانا مذهبيا يتصاعدُ في منطقة المشرق العربي بعد ظهور الجمهورية الإيرانية بذلك الشكل، وهذا الغليان راح يؤثر في مناطق مجاورة وملاصقة لسوريا، ويدخل في أحشاء السياسة السورية الداخلية، وسواء كان ذلك عبر تفاقم مشكلة العراق وتصاعد أعداد المهاجرين العراقيين الكثيرين المتوجهين لسوريا أو عبر استمرار نصف مليون مهاجر عراقي جنوبي يوجدون لحد الآن في سوريا.
إن الطبيعة القتالية وقتذاك لمسألة الصراع ضد السياسة الأمريكية والسياسة الإسرائيلية، كانت تتطلبُ مادةً سكانيةً بشريةً كبيرةً ضد السياسة الإسرائيلية خاصة، لمواجهتها في الجنوب اللبناني والجولان. كما أن قرارَ الارتباط مع السياسة الإيرانية أخذ يتمظهرُ داخليا على صعيد مواقع الوعي والمذاهب في الحياة السورية، فقد وجدت القيادةُ السوريةُ في السياسة الإيرانية مدداً وسنداً كبيرين يقعان على بعد أذرع من الخريطة السورية ويمكنهما أن يخترقا العديد من المواقع عبر جنوب العراق وشماله ثم يمتدان ويتوسعان في لبنان، مثلما أنهما يتماشيان مع تداعي بنائها العلماني الديمقراطي القومي وتوجهها نحو اليمين.
لكن كان موقع المذهبية العلوية مناوئاً لهذا التماثل المذهبي مع إيران، فالعلويون يختلفون بمذهبهم عن الاثني عشرية وكانوا مستقلين طوال قرون، ومن الصعب تغيير مذهب متجذر بأوامر حكومية. كما أن الطلب إلى العلويين أن يغيروا مذهبهم ويقاربوا مذهباً، هو أمرٌ يمتُ إلى السياسة الآلية وليس إلى تطور المذاهب الإسلامية العريقة. لكن رغم ذلك جرت محاولة تحريك بين المذهبين الاثني عشري والعلوي، وبدت كمحاولة سياسية من جهاز سياسي شمولي . بل لقد اتسعت هذه المحاولات لتشمل مذاهب قريبة كالإسماعيليين والدروز، ثم توجهت للسنة كذلك.
إن توظيفَ الدولة ورقة المذاهب في الصراعات السياسية كان شيئاً خطراً في تاريخ السياسة القومية السورية، التي عُرفت بقوة تحديثها وعلمانيتها، لكن أجهزة الدول العربية لا تقرأ عادة لا الخريطة المذهبية ولا خريطة الصراع الاجتماعي فهي توظف الاتجاهات الدينية المتصاعدة بشكل نفعي واستغلالي بعد أن وجدت هبوطاً في خضم الأفكار القومية والتقدمية التي كان يُطنطن بها من دون تطبيق. وتفاقم مثل هذه السياسة يؤدي إلى هجوم من القوى الطائفية المتطرفة الأخرى كما حدث في الهجوم على (مدرسة المدفعية في حلب سنة 1979 التي كان فيها 314 ضابطاً بينهم حوالي 294 ضابطاً ينتمون إلى الطائفة النصيرية الحاكمة في سوريا.. بينما توزع الضباط التسعة عشر على طوائف السنة والمسيحيين والإسماعيلية والدروز)، (أحمد موفق زيدان، مقال:سوريا بين كشف الطائفية وممارستها).
وبهذا فإنه في عهد الرئيس السابق بدأت سياسةٌ مذهبيةٌ مغايرة للتاريخ الفكري لحزب البعث، كما أن الحزب ككلٍ بدأ سياستين مذهبيتين على ضفتي الفرات، أي في العراق وسوريا، ولكن بشكلٍ مغاير. فأخذ الحزبُ يسهمُ في نشر الاثني عشرية في سوريا كما تتشكل حيثياتها في جماعات اليمين المحافظ الإقطاعي، بتوسيع مراكزها العبادية واتسع مثلا التشيع في سوريا، في مناطق الساحل والجزيرة (راجع الأرقام والحيثيات التي أعلنتها حركة العدالة والبناء الإسلامية السورية المعارضة). إن هذا التوجه المذهبي السياسي خطر ليس فقط لكسره ميراث حزب البعث ولكن أيضاً لاستعداء قوى مذهبية أخرى لها صراعات وثارات طويلة مع النظام، وبشكل خاص مع الجماعات السنية السياسية، ومن المعروف كيف جرت الأحداث الرهيبة في حماة وغيرها من المدن. يقول مؤلف «الصراع على السلطة في سوريا« فان دام: «إن الطوائف الإسلامية في سوريا تتكون بالشكل العددي التالي:7،68% هم من السنة، والعلويون 5،11 %، والدروز 3%، والإسماعيليون 5،1% “.
إذًا واجهت الطبقة الصغيرة الحاكمة التي تنتمي قمتها إلى طائفة صغيرة حراكا سياسيا مذهبيا واسعا مضادا، بعد أن بدأت قواعدُها الحديثةُ بالانفضاض عنها، نظراً إلى ما جرى في الملكية العامة كما سبق الذكر، ولم تتوجه تلك الطبقة الصغيرة نحو التحديث والديمقراطية والعلمانية وهي الشعارات التي رفعتها بل كونتْ دولةً مذهبيةً سياسية مغايرة لمنطلقاتها الفكرية، فكان ردُ الفعل الطبيعي أن تتوجه القوى الأخرى إلى النقيض المباشر، أي إلى التسيس المذهبي المعادي الممزق للنسيج الوطني، وليس أن تتجاوز ذلك وتعمل من أجل دولة علمانية المواطنون فيها سواء، والإسلام جذورٌ وتراثٌ وأحكامٌ فقهية في الحياة الاجتماعية. لكن السياسة انعكاسٌ طبقي وليست أعمالاً في الهواء، وطبقة وجدت نفسها في مأزق تاريخي لأنها شكلتْ نظاماً على أساسين عائلي وطائفي، لم تعد قادرة على نقده وتجاوزه، لأن هذا يتطلبُ أن تخلي الملكية العامة للعاملين وللشعب، وكان المسار تسليم الملكية العامة لكبار الموظفين والرأسماليين الطالعين من الأجهزة وعملياتها.
أخبار الخليج 4 أكتوبر 2008