تاريخُ سوريا الحديث تاريخٌ عميقٌ وواسع، وهي قد بدأتْ الحداثةَ العربية ونشرتها بين الدول العربية المشرقية، وأدى الاحتلالُ التركي المباشر إلى نزوعها نحو الأفكار العروبية والقومية في بدء القرن العشرين، وكانت سوريا في بعض فترات التاريخ الإسلامي عاصمة الامبراطورية فغدتْ منتجةَ المذهب السني الرسمي بشكله الأولي (المرجئة)، وكذلك الاعتزال، رديفه العقلاني المعارض، وحين أُلحقتْ ببغداد عاصمة الامبراطورية تراجع ذلك المركزُ السني الغالب وانتشرت المذاهبُ الإسلامية المعارضة كالاثني عشرية وأهل التوحيد (الدروز) واليزيدية وغيرها وكذلك واصلت المسيحية حضورها المهم. وكانت الشامُ المنبسطة مركز المذهب الرسمي، أما المعارضات فتحصنتْ وراء جبال لبنان.
تشكلتْ برجوازيةٌ تحديثيةٌ في زمن الاستعمار الفرنسي وساهمتْ في نمو الوعي السياسي الحديث، وكان الإقطاعُ في الزراعة متجذراً، ومع بدءِ الاستقلال قامت الأسرُ الإقطاعية بطرد الفلاحين من قراهم وأحدثت شيئاً من العلاقات الرأسمالية، وأدت هذه العملية إلى مقاومة الإقطاع في الريف أما الإقطاع السياسي فكانت جذوره في جهاز الدولة تتنامى بشكلٍ حديث. ومع الاستقلال أخذت الملكيةُ العامة في التصاعد، وهو الأمر الذي أوجد إدارات دكتاتورية بدءًا من الشيشكلي الذي فتح الباب للاستعمار البريطاني والأمريكي خاصة في مجال النفط. ثم كرت سبحة الانقلابيين والعسكريين الحكام حتى الوقت الراهن، وبهذا تم إنشاء إقطاع سياسي حاكم على مدى عقود وهو الرحمُ التي تتولدُ منها البرجوازيةُ الشرقيةُ (السوداء)، وهي غير (البيضاء) التي تطلعُ من خارج الدولة في شمس العلانية التجارية. كان ما يُسمى الخيار الاشتراكي محاولة لتجذير رأسمالية الدولة، وكان اقصاه لدى صلاح جديد وجماعته وعني بتصفية الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لتغدو الدولة المالك الوحيد، وتغيير تخلف الريف وتحجيم الإقطاع في مجال الزراعة، وكان نظام الوحدة الناصري قد بدأ ذلك، ولكن الفئات الوسطى التي استولت على إدارة الجيش والحكم خلال عقود رفضت هذا، وكان خيارها هو الرأسمالية المسيطر عليها من قبل الدولة التقليدية، وتجلى ذلك في ضرب دولة الوحدة، ثم في صعود حافظ الأسد، الذي صفى الجناح اليساري في حزب البعث والأحزاب اليسارية الأخرى التي حولها إلى ملاحق سياسية للنظام أو قوى مقموعة سرية.
كان نشوء وتوسع رأسمالية الدولة قد حدثا في القسم الشامي من سوريا، بعد الاستقلال، في حين لم يعرف لبنان رأسمالية الدولة المتجذرة، بل واصلت الإقطاعيات المذهبية تاريخها المديد وهي تشكل رأسمالياتها الباطنية، وهذا ما جعل لبنانَ الطفلَ غيرَ قادرٍ على قطع الحبل السري مع أمه سوريا. لقد قامت هذه الأجهزة بعصر العاملين في سوريا وحولتهم إلى رساميل بسبب هذه الهيمنات المتعددة: العسكرية والبوليسية والسياسية.
وقد شهد حكم الرئيس السابق حافظ الأسد بداية تدهور وضع القطاع العام الحكومي، ويمثل ذلك أزمة رأسمالية الدولة، التي سوف تنعكس على الاتجاهات السياسية والمذهبية الدينية ومواقعها في الخريطة السورية. (في سنة 2000 كانت قيمة الناتج المحلي تتراوح بين 18 و19 مليار دولار، وهو رقمٌ مقاربٌ لناتج لبنان، ولكن عدد سكان سوريا 16 مليون نسمة، وقد نشر الاقتصادي هنري عزام دراسة في جريدة الحياة في 4/3/2000 ذكر فيها تراجعا في نسبة نمو الاقتصاد السوري حتى وصلت إلى 3،1% سنة 1996، وتراجعت مكانة سوريا في الترتيب الاقتصادي العالمي من المرتبة 80 حتى111، أما الديون الخارجية فكانت تبلغ 22 مليار دولار، وكانت البطالة تبلغ 18% من قوة العمل البالغة 29% من مجموع السكان، (موقع إسلام أون لاين، الكاتب: عبدالكريم حمودي).
هذا كله كان ينعكس على وضع الشعب، حيث تزايد الفقر، في حين كانت رأسمالية الدولة تستغل النفط والصناعات المختلفة والسدود، فبدأ عهد الرئيس بشار الأسد بحديث عن تغيير هذه الرأسمالية الحكومية البيروقراطية الفاسدة وبحلول عهد من الديمقراطية، لكن ذلك لم يتحقق، وتوجهت الحكومة نحو الخصخصة المفيدة لهذه البيروقراطية. فجرت تغييرات كبيرة في الحياة الاقتصادية لكن في مسار معين. يقول السيد عبدالله الدردري المشرف على برنامج إعادة الهيكلة في سوريا في الوقت الراهن إن (من يعيش بأقل من دولار في اليوم لا تتجاوز نسبته 6،0% من عدد السكان لكن نسبة من يعيش بدولارين في اليوم تصل إلى 10%) فكم نسبة من يعيش بثلاثة أو أربعة دولارات؟! استطاعت الإدارات السورية أن تسبق بعض دول المشرق في تصعيد جسم الرأسمالية الخاصة التي خرجت من تحت عباءة الدولة بفضل هذا الضغط المعيشي على الجمهور العامل. يقول أحدُ الباحثين: (لقد اصبحت حصة القطاع الخاص ورجال الأعمال (أي البرجوازية الخاصة) من الناتج المحلي الإجمالي من 2،64 % عام 2005 إلى 70% عام .2008 مما يدلُ بشكلٍ قاطعٍ على جبروت وقوة الطبقة البرجوازية السورية الخاصة التي وصلت إليه، ولاسيما أنها تسيطر على 65% من الصناعة، و75% من القطاع التجاري ( نقلاً عن الباحث غياث نعيسة، موقع ميدل ايست أون لاين). ومع هذا فإن حياة الغالبية الشعبية في تدهور، وثلث الشعب يعيش تحت خط الفقر، وتفاقم هذا بعد قبول الدولة شروط البنك الدولي لعمليات الخصخصة، فقامت بـ “تحرير” أسعار المحروقات. استطاعت القوى البيروقراطية المختلفة المتعاونة مع القطاع الخاص أن توجه خيار سوريا السياسي في هذه المرحلة، وهو أمر سوف ينعكس على التوجهات الفكرية والمذهبية كما سنرى. فتشكيل الثروات الكبرى بهذا الشكل السري الواسع العنيف يوجه أي بلد نحو صعود القوى المذهبية السياسية التي تعني انهيار أي دولة. كان السيد رفعت الأسد ضابطاً صغيراً في بداية الستينيات ولا يتجاوز راتبه عدة مئات من الليرات، ثم صار يملك المليارات ورحّل نصفَ ذهب سوريا للخارج. وباسل الأسد توفي وقام البنكُ السويسري الذي أودعَ فيه حساباً له بأخذ نصفه البالغ عشرين ملياراً، لأنه كان أعزب ويتم هذا الإجراء بحسب القانون السويسري.
أخبار الخليج 3 أكتوبر 2008