حين بحثنا مسألة مستقبل السياسة المذهبية الإيرانية الرسمية أكدنا بكونها تعبيراً عن علاقات اجتماعية واقتصادية ذات جذور طويلة، وكذلك بأن هذه السياسة تتعرض في الوقت الراهن لصراعات كبيرة، ولكن خمسة قرون من التاريخ لن تنتهي في بضع سنوات، فلا بد من عوامل موضوعية تتشكل في الأرض وأهمها كون الملكية العامة تغدو تعبيراً عن ملكية الشعب، وبالتعبير الإسلامي أن يصيرَ فيءُ المسلمين عائداً إليهم، وليس لجماعةٍ صغيرةٍ مخصوصة، سواء أكان ذلك بالديمقراطية الحزبية الحرة والرقابية أم بنمو قطاع خاص وطني صناعي كبير مستقل عن وصاية الدولة.
وكلا الأمرين دونه خرط القتاد كما كانوا يقولون، وتجسيد نفي ذلك أن تتجاوز الدولة سياسة المواجهة ضد الشعب أو ضد الخارج، في تبدل مظلة الملكية العامة الشاسعة هذه، وتصغير الميزانية العسكرية وسياسة التصنيع الحربي غير المجدية، وفتح قنوات التعددية للتيارات الوطنية المكافحة لتقدم شعب إيران. وإذا كان هذا يعني العودة بالمذهبية الضيقة إلى جذور الكفاح الإسلامي فإن ذلك يعني ثقافة ديمقراطية إنسانية تحتاج إلى عقود لتفتحها، فالإسلامي النضالي كان في جوهرهِ إنسانياً ثورياً متجاوزاً لحكم الدراويش والسلاطين. وتلك القرونُ المديدة السابقة لن يُقفزَ عليها بلمح البصر، وهي تواجه ليبراليةً فوضويةً إباحية غربية، أخذت تسكنُ الطبقات التحتية من العمارة الإيرانية الكبيرة، وجموداً مذهبياً وسياسياً يسكنُ الطبقة العليا الأعلى، وتتحكمُ في ديمومة ذلك فئاتٌ عليا مستفيدةٌ من ضخ مالي كبير، تمنع إعادة النظر في العمارة أو النظام. ولكن السياسة الإيرانية الرسمية كانت تتحكمُ فيها السياسة الأمريكية سلباً أم إيجاباً، فالسياسة الأمريكية هي التي اختارت طريق الحكم المذهبي المتشدد لإيران، فكانت المخابرات الأمريكية هي التي تتحكم في خيارات إيران أثناء الثورة، وفضلت الخيارَ الديني المتشدد ورفضت الليبرالي والماركسي بطبيعة الحال بالنسبة إلى الأخير. كان ذلك بالنسبة إليها أقل الخيارات خطورة. ولكن لم يكن كذلك بالنسبة إلى الشعب الإيراني أو المنطقة الإيرانية العربية. ثم وجدت أن هذا الخيارَ مفيدٌ جداً، فهو يعني إنشاء صدامات كبرى بين السنة والشيعة، وتكوين صدام بين العراق وإيران وقتذاك وتخويف دول الخليج الصغيرة ونشر القواعد الأمريكية. ثم عملت على بقاء هذا الخط الديني المتشدد المفيد، فقد أدى هذا الخيار إلى ارعاب المنطقة، وإيجاد توترات مخيفة فيها، وإلى ازدياد هائل في المشتريات العسكرية الأمريكية التي هي أكبر الموارد لما يُفترض أن تكون امبريالية متفوقة اقتصادياً.(تبلغ المبيعات العسكرية الأمريكية من المبيعات العالمية 45% وهي لبضع شركات أمريكية قليلة). راحت أمريكا توسع الخطر الإيراني بأشكالٍ مختلفة، فلم تجدْ دولةً أخرى بمثل هذا الاستعداد لتقبل المؤامرة، فلديها كل الخصائص والتاريخ السابق المتكون بتبرير (معقول). فقد تجمع الحماس إلى جانب الغفلة إلى جانب التغلغل القديم. ولا عجب أن تكون شبكة الصواريخ الأمريكية المنصوبة في شرق أوروبا تـُقام تحت ذريعة الصواريخ الإيرانية المحدودة المدى! ووجدت السياستان الأمريكية والإيرانية أنفسهما معاً على صعيد الفعل السياسي لتوتير المنطقة، ومتضادتين على صعيد الكلام. ولكن كانت سياسة التسلح الإيرانية بعد انتهاء الحرب مع النظام العراقي السابق في نزول مستمر، فقد هبطت النفقاتُ العسكريةُ الإيرانية من سبعة مليارات سنوياً إلى 2 – 4 مليارات طبقاً لتقارير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن. وهبطت واردات إيران من المعدات العسكرية من 7 مليارات دولار سنة 1988 إلى 700 مليون دولار حالياً. وهناك مشروعات عسكرية أمريكية كونية هائلة ليس لها ما يُبررها سياسياً فوجدت ضالتها في إيران. لقد أعلنت إيران صناعة مجموعة من الأسلحة كدبابة ميدان رئيسية، ولكن إنتاجها ليس بذاك المستوى وليس بكم مهم، مثل الطائرة النفاثة المقاتلة ذات المهمات المتعددة التي هي نسخة من طائرة أمريكية ومعدات روسية وقد صُنعت منها عدة طائرات قليلة، أما الغواصة فكانت صغيرة تسع لخمسة بحارة، ثم استمرت السياسة الإيرانية العسكرية تنتج معدات وتجرب صواريخ كانت كذلك محدودة القيمة العسكرية، وفي الجانب الأمريكي يتم التركيز في هذه التجارب بأشكال مدوية! كل هذه التهاويل الأمريكية والإيرانية المشتركة قـُصد منها على الجانب الأمريكي مشروعات عسكرية وسياسية معروفة، ومن الجانب الإيراني تعبئة الشعب وقمع أصواته المحتجة على هدر الأموال. ثم جاءت مسألة القنبلة النووية، لتكون وسيلة إيران للخروج من مأزق محدودية سلاحها العسكري، وتجاوزاً لنفقات التسلح الهائلة التي تراجعت نظراً لغياب حرب مُبررّة أمام المواطنين الإيرانيين. ووجدت فيها أمريكا وسيلة أخرى لتبرير انتشارها العسكري واستراتيجيتها. بهذا نرى أن النظام الإيراني غير قادر على التراجع عن سياسة التشدد فأي تراجع عن ذلك يطرح سلسلة من التغيرات الفكرية والسياسية والعسكرية والاجتماعية، مما يتطلب نظاماً جديداً يقوم على رؤية ديمقراطية للمذهب وللإسلام، وعلى تعددية واتساع الحريات وإزالة مشروع الدولة العظمى ونفقاتها العسكرية الكبيرة، وكل هذا محال في ظل قيادات تربت على مثل هذا الخيار. ربما كان اختيار مرشد جديد وظهور قوى عقلانية في قيادة رجال الدين تفتح الباب لتحول سلمي ولكن دون ذلك مواجهات على الصعيدين الخارجي والداخلي مؤسفة ومكلفة في آن واحد.
صحيفة اخبار الخليج
29 سبتمبر 2008