هناك مقولة أشبه ما تكون بالحكمة يعرفها الباحثون في التراث الشعبي، الشفهي منه خاصةً، فحواها أن وفاة رجل مُسن تعني فقدان مكتبة بكاملها. القصد من ذلك انه تجب المسارعة في تسجيل ما يختزنه هؤلاء المسنون من ذكريات ومعلومات، قبل أن يموتوا، فتموت هذه المعلومات معهم، فليس بوسع أحد، ساعتها، تجميع ما فُقد من هذه المعلومات برحيلهم. خطرتْ في ذهني هذه المقولة وأنا أستعيد عبارة الأستاذ حسين قاسم، وهو من شخصياتنا الوطنية المعروفة، قالها لي ونحن نقدم التعازي لعائلة المهندس هشام الشهابي بعد مواراة جثمانه الثرى في مقبرة المحرق ظهر يوم الجمعة الماضي: »في مثل هذه الحالات أشعر بأننا نتناقص«. وجُملة حسين قاسم صحيحة من أي وجه أتيناها، ليس فقط بمعنى النقص العددي برحيل مناضلينا وأعضائنا، وإنما أيضاً لأن غياب شخصيات بوزن هشام الشهابي تفقد حركتنا الوطنية خبرات وطاقات نوعية لا يمكن تعويضها بسهولة، وبالتالي فإننا ننقص فعلاً أحد جوانب الخبرة التي كان عليها مثل هؤلاء الرجال. ولكننا نفقد أيضاً جزءاً من تاريخ الحركة الوطنية، الذي هو مُكونٌ من مكونات التاريخ الوطني لهذا البلد، وهو تاريخ لم يُكتب، ولن يُكتب بالصورة الصحيحة والمُنصفة، إذا ظلً دور الحركة الوطنية في صنعه مُقفلاً أو مُغيباً، بصرف النظر عن الأسباب. بدأت هذا الحديث بمقولة تتصل بالتراث الشفهي قاصداً، لأن تاريخ هذه الحركة الوطنية، ما زال في جله الأعظم تاريخاً شفهياً لم يُكتب، وأزيد انه تاريخ مخفي في الصدور لإحجام الكثير من صُناعه عن الكتابة عنه، إما إمعاناً في التواضع ونكران الذات، أو ميلاً للحفاظ على ما يحسب أسرار تنظيمية يجب أن تظل في الكتمان، رغم زوال الكثير من مبررات ذلك. وللأسف فان هذا التاريخ يظل شفهياً أو مسكوتاً عنه، فيما الكثير من صُناعه بوسعهم كتابة ما عايشوه وما قاموا به من أدوار، لكن إحجامهم عن الحديث والكتابة، رغم محورية أدوارهم وأدوار التنظيمات الوطنية التي كانوا في قيادتها، أو ضمن كوادرها ومناضليها النشطين، تجعل من هذا التاريخ المُشرف »ملطشة« لمن يريد شخصنة هذا التاريخ، بإلغاء أدوار وتضحيات الآخرين، خاصة الجنود المجهولين في التنظيمات الوطنية، ونسب الأدوار كلها لشخص أو بضعة أشخاص، فيما يمكن أن يكون نصيب الآخرين ليس فقط التجاهل والإهمال، وإنما التشكيك في نزاهتهم وشرفهم الوطني. لقد رحل هشام الشهابي دون أن يكتب مذكراته. والأمر نفسه يصح على الراحل أحمد الذوادي فخلا بضع مقابلات صحفية وتسجيلات نادرة، صوتية، وبالفيديو، جمعناها في كتاب صغير صدر في السنوية الأولى لرحيله، فانه غادرنا دون أن يُفصح عن كنز المعلومات الذي يتوفر عليه، بسبب التدهور السريع في حالته الصحية في السنوات التي سبقت رحيله، ويمكن قول الشيء نفسه عن الراحلة ليلى فخرو. للحديث تتمة غداً.
صحيفة الايام
29 سبتمبر 2008