إنه ‘اكتشاف عظيم’ ذلك الذي توصل إليه البنك الدولي في تقريره الأخير الذي أصدره يوم السادس والعشرين من أغسطس .2008 فلقد اتضح له أن عدد الفقراء في العالم يبلغ 4,1 مليار نسمة وليس 986 مليون نسمة كما كان قرر البنك ذلك في تقريره الصادر في أبريل من العام الماضي، وكانت المرة الأولى التي يخفض فيها البنك تقديراته عن الفقر المدقع (Extreme poverty) في العالم.
وجاء تصحيح البنك لتقديراته الخاصة بالفقر في العالم على إثر توصل الباحثين لدى البنك شاهوا تشين ومارتن رافاليون إلى أن طريقة احتساب تكاليف المعيشة حول العالم لم تكن دقيقة، حيث أعادوا تقييم آثار ارتفاع أسعار مئات أنواع السلع والمنتجات في 146 دولة على المستويات المعيشية للسكان، وتبين لهم أن كلفة المعيشة في كثير من الدول النامية الفقيرة هي أعلى بكثير مما كان يذهب إليه البنك في تقاريره سابقاً، وهو ما أدى إلى إخراج أكثر من 400 مليون إنسان من خط الفقر.
بل ذهب الباحثان إلى أبعـد من ذلك، إذ توصـلا إلى خلاصة مفادها أن خط الفقر المرسـوم سابقـاً، والذي درج البنـك على الأخذ به وهو احتساب الأشـخاص الفقـراء علـى أسـاس دخـل يقـل عن دولار واحـد يوميا، لم يعد صحيحاً. وهو التعريف الشـهير الذي أخـذ به البنـك في تقـريره لعام 1990 حـول التنمية في العالم (1990 World Development Report) والذي تبنته لاحقاً الأمم المتحدة عندما قررت خفض نسبة الفقر في العالم إلى النصف بحلول عام .2015
وقد اختار الباحثان دراسة كلفة المعيشة في أكثر خمس عشرة دولة فقراً في العالم التي لديها خط واضح ومعقول للفقر. وعلى هذا الأساس فقد اعتُبر فقيراً كل من لا يستطيع مقابلة كلفة معيشة قدرها 25,1 دولار في اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية في عام .2005 مثل هؤلاء يمكن اعتبارهم فقراء حتى في نيبال وطاجيكستان وفي دول أفريقية معوزة مثل أوغندا. كما أنهما اعتبرا حتى أولئك الذين لازال دخلهم اليومي يقل عن دولار في عدد من البلدان بأسعار عام .2005
ومع ذلك، فإن هذا ‘الاكتشاف العظيم’ للبنك الدولي (وجود 400 مليون فقير إضافي في العالم سقطوا ‘سهواً’ من حسابات البنك)، لم تقنع منتقدي البنك الذين يقولون بأنه لازال يقلل عن قصد من شأن العدد الحقيقي للفقراء في العالم. فتقديرات البنك تستند إلى النفقات الأسرية الممثلة لشريحة من الناس التي تعكس الإنفاق الوطني. وبما أن الفقراء لا يندرجون ضمن هذه الشريحة لأن مشترياتهم تتم بأقل من البيع بالمفرق، قدر كوب رز وليس كيس يزن عشرة كيلوغرامات، عدد سيجارة واحدة وليس علبة، وهذا ما يجعلهم يدفعون سعراً أعلى.
وقد حفزت النتائج التي كشف عنها الباحثان البنك الآسيوي للتنمية (ADB) على إجراء دراسة خاصة به تغطي 16 دولة من الدول الأعضاء في البنك (باستثناء الصين). وجاءت نتائج دراسة البنك التي نُشرت في السابع والعشرين من أغسطس الماضي على النحو التالي: في 9 من الدول الـ 16 تبين أن الفقراء يدفعون أقل رغم شرائهم بكميات صغيرة. فهم يوفرون من خلال الشراء من محلات رخيصة، مثل شراء نفس الحاجيات من الباعة المتجولين وليس من السوبر ماركت. وهو ما يعني أن تكلفة المعيشة في إندونيسيا جاءت أقل بنسبة 21٪ من تقديرات البنك الدولي، وأقل بنسبة 10٪ في الهند وبنغلاديش.
ولكن البنك الدولي الذي يعتبر مؤشر نوعية الحياة (Quality of Life) أحد عناصر قياس مستوى المعيشة، لم يوافق البنك الآسيوي منهجيته في طريقة احتساب مؤشر مستوى المعيشة، فهو - بحسب البنك الدولي - خاطئ من الناحية المنهجية والفلسفية. فالفقر يفترض أن يتم احتسابه على أساس كم من الناس فشلوا في مقابلة مستوى معين من المعيشة (وليس التحايل والالتفاف عليه). فالشخص الذي يلبس البوليستر بدلاً من القطن ويأكل رزاً رديئاً عوضاً عن الرز البسمتي، حتماً سيكون مستواه المعيشي منخفضاً حتى ولو تناول نفس كمية الحبوب ولبس نفس اللباس.
ومع ذلك فإنه من غير المستبعد أن تكون المقاربة التي اتبعها البنك الآسيوي للتنمية لاحتساب عدد الفقراء والتي أفضت إلى ‘تقليم’ عددهم فنياً، قد راقت لخبراء البنك الدولي الذين قد يعمدون لتطبيقها في دراستهم عن مستوى الأسعار في العالم المزمعة في عام ,2011 لأنها تساعدهم ببساطة على شطب حوالي خمسمائة مليون فقير من إجمالي عدد الفقراء في العالم، وعندها يستطيع البنك الزعم بأن عددهم 900 مليون وليس فوق رقم المليار (4,1 مليار)، ولن يتعين عليه الاستدراك ثانية والإعلان عن اكتشاف عظيم واعتراف فضيل بخطأ.
صحيفة الوطن
28 سبتمبر 2008