المنشور

هشام بن عبدالملك.. بين ” ليلة الوحشة ” و” الجمعة اليتيمة “


يّنصح الطبيب ألا يجري عملية دقيقة لأحد من أقربائه، لما لهذه العلاقة من تدخُّل – ولو بنسبة يسيرة – في سير العملية وما قد ينتج عنها.. ليس أقل من هذا أن يكتب المرء عن أحد أقاربه، شهادة هي أقرب إلى الرثاء، ورثاء أبعد ما بمقدوره أن يحمل ما يجهش به القرين الساكن داخلك.


عظيم أنْ تبقى كل هذه العقود معتقداً أنّ هشام الشهابي يستعصي على أن يلين، ولا يلين، تبقى مطمئناً أن بوصلتك الوطنية لم تصدأ عندما تراه على مبادئه التي غادرها كثيرون من رفاقه ولم يبق من جيش العُسرة الوطني إلا من وهبوا أنفسهم. ولا تحمل ذاكرتك إلا هشاماً من هشامين: ذلك الباشّ الباسم الذي يطلق التعليقات الساخرة اللاذعة على كل ما حوله، ويترك في كل شيء اسماً ووصفاً لا يجيده غيره وإن أعملوا آلات الاختراع فيهم.. كما ترى ذلك الرجل الذي لا يملّ ساعة من حمل همّ بلده، ويتحدث في هذا الهم ليل نهار، مطلقاً عنان اهتمامه بالشارع والحي ومسؤوليتهما الاجتماعية عن التربية الوطنية وحفظ النشء من اللامبالاة الوطنية والأهلية والعودة إلى نظام ‘رجالات الأحياء’ ما دام هناك حلقات مفقودة في تحمّل هذه المسؤولية في تركيبة النظام (وهو الحديث الذي كان محور آخر جلسة جمعتني به في أوائل شهر رمضان المتصرِّم)، وصولاً إلى قمم أهرامات المستعصيات التي يعيشها هذا البلد وما حوله، ومفاتيح الحل التي لا تصدأ أبداً في نظره، وهي: الديمقراطية الحقيقية.. وفي كلا الهشامين، هو نفسه بقمصانه ذات الكمّ القصير، والجيبين على الصدر والكتافتين، لم أره أبداً قط بربطة عنق أو في نســق التأنق الطاووسي، واقفاً على مسافة من الأنــوف كالمسافــة من الحــرام.. ‘فاجتنبــوه’!


أكثر من ثلاثة عقود، منذ أن تفتح وعيي واختزنت ذاكرتي ذلك المساء الكئيب وجدتي (رحمها الله) ممسكة بسبحتها وقد هدّها الحزن متكورة على سجادة الصلاة بعد أن أدت المغرب، باكية لأخذ ابنها هشام إلى السجن لانتماءاته السياسية، وتركُ البيت وفيه وشم أكثر من حفرة عميقة في ‘حوشه’.. كانوا يبحثون عما لا يوجد تحت التراب، لم يجدوا شيئاً مخبأ، فالفكر الذي دافع عنه هشامٌ أوضح من أن يُرى، وأصرح من أن لا يُسمع، أقرب إلى التناول، وأعمق من أن يُحفر له.


أكثر من ثلاثة عقود وأنا أحاول أن أجد فسحة لأسأله: لماذا سجن جدا، وما الذي حدث هناك، ولماذا ‘كتلة الشهابيين’ التي قاطعت انتخابات المجلس التأسيسي، وما دخلك بالنقابات العمالية، من كنت في ذاك الزمان ومن أنت اليوم.. و.. متى ستعلن أنك تعبت وأنك ستترك الساحة لآخرين يواصلون ما بدأت؟
في الكتلة الحرجة، في أكثر المواقف التي تحتاج إلى الصلابة والحضور الذي لا يتأتئ أو يتلعثم أو تتغبش أمامه الرؤية، تجد هشاماً هناك، ليس في الطليعة، ليس في تصدر المنابر وإن مع حضوره اللافت الذي لا يُخطأ، تجده واثقاً مما هو ماضٍ فيه، صامتاً، لا يتبارى في الظهور حتى نسيه من لا يعرفه، لم يباهِ بتاريخه العريض نضالياً، لم يبهرج جراحاته وسجنه ونضاله ويعلقها في البازارات التي افتتحت في كل مكان، وآتت أؤكلها لمن أراد استثمارها وطنياً وتجارياً حتى.. يمضي في دائرته، مع حواريي الوطن الذين لم يَهِنُوا ولم يحزنوا وخطهم أعرض من أن يضلوا عنه، يؤسس مع قلتهم تحت ظلال أحذية أمن الدولة العريضتين النخبوية والشعبية (1994 ,1992) ويكون اسمه من العشرة الذين شكلوا تلاوين أهله الذين آمن بهم ممتدين من دار كليب والزلاق، إلى عراد والحد، في سعيهم إلى حلم وطن يتركونه على جادة الصواب لأبنائهم، شركاء فيه، فاعلين بقدر محبتهم له، ولا مزايدات.. كما حلم خاله من قبله (محمد كمال الشهابي) بهيئة وطنية لوطن يقيهم بأسهم ويذهبون فداءه إن لزم.. لا غرو و’الخال أحد الضجيعين’.


في ‘ليلة الوحشة’ تعذر البقاء معه لنؤنس وحشتنا من دونه، لنطفئ إحساساً بأنه موجود هناك، يمارس نظامه الصارم مع نفسه، الساعة التي ضبط حياته عليها، برامجه التي لا تتخلخل، حمله للأثقال في نادي اتحاد الشباب، وعدم التردد في إعطاء دروس في الأخلاق لمن يتجاوزونها من الصغار في النادي تحسساً لواجب لا يتخلى عنه، أو ممازحته زملاء نادي الهلال، قيادته الشفيفة لاجتماع في جمعية المهندسين من دون تقطيب، وباسترسال مذهل، بانسحاب أقرب إلى النسيم عندما تنتهي فعالية وطنية، ويبرز الحاضرون وجوههم أن ‘نحن هنا’، بحفظه لكنى جميع من في حيّه ومن هم خارجه، وانحنائه الوحيد في حياته الذي يهبه للأطفال إذ يناغيهم.


صبيحة ‘الجمعة اليتيمة’ من رمضان، كان اليُتم يقرّبنا جميعاً إذ يلتف حول هشام عبدالملك الشهابي، أناس لم يروه قط وآخرون تحلقوا يوماً حول طاولة كان الوطن سفرهم وغايتهم وعزاؤهم ومنتهاهم، يودعون بضعة من هذا الوطن في طين مقبرة المحرق ذي الرائحة العميقة، لتحتضن أحد أبرارها.. قرأتُ حينها وصيِّته التي اختتمت ‘الوقت’ بها ملف ‘العقد المر’ حين قال ‘إذا كنتُ أشعرُ شعوراً متجذراً أنني صاحب حق، وأن هذا الحق ليس في يدي، فسأظل أطالب به، وأورث هذه المطالبة لأبنائي ومن سيأتون بعدهم.. سنخسر معارك كثيرة، ولكننا لن نخسر الحرب.. إنها مسألة حقوق وواجبات متبادلة’.
 
الوقت 27 سبتمبر 2008