إن رفض التطور القومي المستقل للشعوب الإسلامية من قبل الحكومة الإيرانية يتشكلُ لوجود هذا الالتحام بين المذهب في إيران والدولة، وتعبرُ عن ذلك بعضُ موادِ الدستور خاصة المادة الـ (12). فكما يتمُ تعميم وتجريد تاريخِ الإسلام يتمُ تعميم وتجريد تاريخ الاثني عشرية، وجعلها مُلحقةً بوعي الدولةِ الراهن، فالاثنا عشرية المقوننة هنا تعتبرُ الطبعةَ الأولى والأخيرة من المذهب كما يتجسدُ ذلك في وثائق الحكومة المحورية كالدستور، ولا يتمُ رؤيتَها كطبعاتٍ متعددة تعكس تطور وجهات النظر والخبرة والتنوع الأممي للشعوب والطبقات الإسلامية لتغتني باستمرار، بل هي طبعةٌ أولى ومتوقفة عند وعي رجال الدين الكبار الراهن، وهذا الدمجُ بين رؤيةِ الدولة ورؤيةِ المذهب نابعٌ من ذلك التاريخ المحافظ وللسيطرة الطبقية لقوى الاستغلال الكبرى العتيقة على أجهزة الحكم والجماعات التي قلنا إنها سيطرتْ على فائضٍ مالي كبير خلال تشكل الدولة الإيرانية خلال قرون ولم تعرف التحديث في أساليبها.
وانتقل هذا الإرث للإدارة في العهد الجمهوري، لهذا فهي غير قادرة حالياً على التحديث الديقراطي، ومصالح فئاتها الواسعة القابضة على مقاليد الجيش والوزارات والحرس، لا تستطيع أن تجمعَ بين التغيير الداخلي التحديثي وفهم المذهب الاثني عشري باعتباره مذهباً غنياً لا تـُستنفدُ طاقاته، وتجسيد ذلك بخط التفتح الديمقراطي، لكن مسار تطور الدولة وتشابكها بالصناعة والتجارة العصرية وغيرها يفرض تبدل وجهات النظر الدينية التقليدية ببطءٍ شديد. وهذا يعني أن المذهبَ قادرٌ على ذلك في إيران أو في مواقع أخرى من العالم الإسلامي، ولكن هي السيطرة السياسية الآنية وأفقها المحدود في موقع إيران الراهن. وسببيةُ ذلك تكمنُ في نظام رأسمالية الدولة الشرقي عموماً الذي يتمظهرُ في إيران، بصيغةِ سيطرة الملكية العامة على أهم نوابض الإنتاج، فتقول المادة (الرابعة والأربعون) من الدستور: ” فالقطاع الحكومي يشمل الصناعات الكبرى كافة، والصناعات الأم، والتجارة الخارجية، والمناجم الكبيرة، والعمل المصرفي، والتأمين، وقطاع الطاقة، والسدود، وشبكات الري الكبيرة والإذاعة والتلفزيون والبريد والبرق والهاتف، والنقل الجوي والبحري والطرق والسكك الحديدية وما شابهها فإنها تعدُ من الملكية العامة، وحق التصرف فيها للدولة. والقطاع التعاوني يشمل الشركات والمؤسسات التعاونية للإنتاج والتوزيع والتي تـُؤسسُ في المدن والقرى وفق القواعد الإسلامية.والقطاع الخاص يشمل جانباً من الزراعة وتربية المواشي والدواجن والتجارة والخدمات، مما يعد متمماً للنشاط الحكومي والتعاوني “. تتضحُ هنا ضخامة ملكيات الدولة الشاسعة، لكن هذه الملكيات العامة لا تمتد إلى ملكية الأرض، فهي تقومُ بتقزيم (البرجوازية) الصناعية وتحجيم (البرجوازية) التجارية، لكنها لا تمتدُ قلامةَ ظفرٍ إلى أملاك الإقطاع الزراعي، حيث تـُمنع هنا الملكية العامة ويُرفضُ الإصلاح الزراعي أي توزيع الأرض على المعدمين. وهو أمرٌ ليس غريباً. ويعبرُ ذلك عن جذور الإقطاعِ السياسي الحاكم، الذي تشكل في الزراعة لقرون وامتد إلى العقار والتجارة والصرافة، ومع ظهور واتساع الملكية العامة في العهد الملكي السابق تضخمتْ الملكيةُ هذه في العهد الجمهوري،(وكانت «الثورةُ البيضاء” علامةً فارقةً على تباين الإقطاع السياسي الامبراطوري عن الإقطاع المذهبي) فتنامت أجهزةُ الحكم المذهبي السياسية والعسكرية، فحصلت الفئاتُ الوسطى على مكانةٍ كبيرة في هذه الأجهزة وغدت بيروقراطيةً كبرى متنفذةً ومُلحقةً بحكم رجال الدين الكبار، وهي أمورٌ تضعُ الميزانيات في خدمة جناحيها البارزين هذين، وليتسرب منها شيءٌ بسيط للشعب، كما هي العادة في ظل ملكيات الدولة الرأسمالية الشرقية.
ولهذا تجمدُ هذه القوى الاجتماعيةُ من كبارِ رجالِ الدين إلى هذه الفئات الوسطى المتنفذة في الأجهزة الرسمية خيارَ إيران الاجتماعي، وتفرملهُ عند فهمها المذهبي الخاص الراهن. أي تؤدلجُ تاريخَ الاثني عشرية عند فهمهما ومصلحتها الحالية، وحين يتبدل هذا الأساس سوف تتغير النظرات. وهذا يوجه التطور الاقتصادي من هيكلية الميزانية وبنودها المحورية حسب برامج هذه القوى التي تتضمن العسكرة وتشديد القبضة البيروقراطية الأمنية وحلب الموارد لمصلحتها وترك الأغلبية الشعبية في معيشةٍ متدنية، فيما يعبرُ برنامجُها السياسي عن تصعيد التوجه القومي المتواري تحت طبقة المذهبية، ويستثمرُ الشبكةَ الاجتماعية السكانيةَ ما فوق القومية، أي تلك الشعوب الواقعة خارج الدولة الإيرانية، فيعكسُ الدستورُ الإيراني بموادهِ هذه الرؤية ويقننها. وبالتالي فهناك التوجهات المذهبية الإثنا عشرية الوطنية التي تتشكلُ ببطء في الدول الأخرى التي تراعي خصائص بلدانها وظروفها وتنسحبُ من المشروع المركزي الإيراني.
ولهذا فإن تخفيضَ العسكرة في إيران لو حدث يؤدي على العكس إلى تطور القطاعات الاقتصادية، خاصةً إذا ترافق ذلك مع تقليص حضور الدولة في كل كيان اقتصادي حتى لو كان صغيراً، ولكن ذلك يتطلب تصعيد البرجوازيات في الصناعة والتجارة وتوسيع الحريات الخ، وهذا لا يستقيمُ مع نظامٍ شمولي. لكن الانتقالَ من نظام آيات الله الشمولي إلى نظامٍ ديمقراطي ممكنٌ عبر وجود قادة دينيين ديمقراطيين ينتمون للجمهور الشعبي المتنوع الطبقات ويستعيدون إرثَ الأئمةِ الكبار المناضلين من أجل الفقراء، وهذه طبعةٌ أخرى قادمة من الاثني عشرية لابد أن تنضجَ تحت نيران الصراع الاجتماعي والعودة لجذورِ الاثني عشرية وقراءتها بشكلٍ حقيقي.
أما ما يُقال عن عودة الإيرانيين للمجوسية فهي مساراتٌ واهمة، وتعبيرٌ عن يأس واختناق. إن استمراريةَ ذات الخط الديني المتشدد يتطابقُ مع وجودِ الصراعات العسكرية مع الدول الغربية، التي يحتاج بعضها إلى هذا التشدد ليبرر حضوره العسكري في الخليج، مثلما أن القيادةَ الإيرانية تحتاج إليه لتظهر بمظهر الُمحاصَر، وبالتالي الذي لا يستطيع أن يلبي حاجات العامةِ والديمقراطية ويمضي (مضطراً) للنفقات العسكرية الباهظة، مما يقودُ إلى خيار الصدام الحتمي الذي قد يؤدي إلى فوضوية سياسية وتقود إيران إلى صراعات شبيهةٍ بالعراق والسودان والصومال. إن الصراع المحوري بين رجال الدين الكبار والقوى العسكرية والسياسية البيروقراطية من جهةٍ وقوى الليبرالية والجمهور الفقير من جهةٍ أخرى، لا تتسارعُ وتتجذرُ بسببِ ضخامةِ سيطرة الدولة على الحياة الاقتصادية وعلى إنتاج الدين والثقافة، ولكن الخصخصة لن تغير من هذا وسنرى محدوديتها لاحقاً، وتؤدي إلى اضطرابات متعددة كذلك، فيغدو الخيارُ الليبرالي الديمقراطي في عيون الجمهور الفقير الواسع مكروهاً، بسبب تحميل الجمهور فاتورات الإصلاحِ الاقتصادي الزائفِ وهو الفقيرُ المعدم، فيؤيدُ الخيارَ الأبوي الحكومي الاستبدادي، لما وراءهُ من مؤسساتٍ جماهيرية تعضدُ معيشتَهُ الرثة المؤمنة على الأقل، (هناك مؤسساتٌ كثيرة في هذا السياق مرتبطة بالتجييش المذهبي السياسي).
إن ظهور شخصيات إصلاحية على غرار خاتمي لم يتعمق، فأفكارها لا تتعمق في التاريخ المذهبي ولا في رؤية العصر، فهي لا تتجرأ على رفض الدكتاتورية الدينية الشمولية، وعلى طرح الخيار الديمقراطي الإسلامي الليبرالي، في حين ان منتظري المعتقل هو الأقرب إلى ذلك. لكن الاعتقال المطول وعدم تكون كادر واسع له يرثُ الحكمَ يضعُ البلادَ كذلك في قبضة التشدد أو الاحتمالات المفتوحة للفوضى الليبرالية والحروب الأهلية. وقد يكون منتظري أو تلاميذه خيار إيران الجديد.
أخبار الخليج 26 سبتمبر 2008