المنشور

حكايات من تاريخنا (67)… مذكرات فخرو والأنصاري

كانت البحرين في طليعة بلدان الخليج العربي التي ظهر فيها التعليم النظامي الحديث مبكرا وذلك منذ أواخر العقد الثاني من القرن العشرين الفائت، ومع انها كانت معروفة بريادتها الثقافية والحضارية في المنطقة منذ فجر الحضارة العربية والاسلامية حيث ظهر منها العديد من الرموز الأدبية والفلسفية والفكرية والفقهية على مر العصور الاسلامية والتي ساهمت باسهامات هامة متميزة في إثراء هذه المجالات المذكورة. الا ان ظهور التعليم النظامي الحديث فيها منذ وقت مبكر من أوائل القرن العشرين (1919) يعد بلا شك نقلة نوعية مهمة في تاريخ البلاد والمنطقة المعاصر ساعد على ظهور ونمو نهضة علمية وثقافية تنسجم مع روح العصر وتقدمه الحضاري، ولاسيما بعد ظهور صناعة النفط.
وكان من نتائج هذا الظهور المبكر للتعليم النظامي وتطوره سريعا بدءا من التعليم الابتدائي الى الثانوي ثم الجامعي ان برز لدينا رواد في تاريخنا المعاصر في مختلف حقول العلم والمعرفة والثقافة يشار لهم بالبنان، سواء في الأدب أو الشعر أم في الفن والاعلام والصحافة، وغيرها من ضروب الثقافة والعلوم الاخرى. وأحسب ان اسماء الرموز الريادية في هذه المجالات معروفة وليست بحاجة في هذه العجالة لاستعراضها. على انه في المجالين الفكري والبحثي السياسي المعاصرين ورغم عراقة الثقافة والحركة السياسيتين في البلاد فان الأسماء والرموز اللامعة المشهورة البحرينية المعروفة في عالمنا العربي تكاد تنحصر في اسمين فقط هما الدكتور علي محمد فخرو (76 عاما) وزير الصحة ثم التربية والتعليم الأسبق ثم سفيرنا السابق في فرنسا ثم أخيرا الرئيس السابق لمجلس أمناء مركز الدراسات والبحوث والمتخصص الآن في كتابة مقال صحفي اسبوعي رصين ينشر في الإمارات والبحرين، فضلا عن أنشطته كمحاضر أو محاور فاعل في المنتديات والندوات المحلية والخارجية التي يدعى اليها. أما الثاني فهو الدكتور محمد جابر الأنصاري (نحو 70 عاما) الذي كان عضوا في الاجتماعات التحضيرية للاتحاد التساعي عشية انسحاب بريطانيا من محمياتها ببعض مجلس التعاون، وأحد مؤسسي أسرة الأدباء، ثم أصبح عضوا في مجلس الدولة ومسئولا عن دائرة الاعلام، وأخيرا فهو الآن استاذ جامعي بجامعة الخليج العربي ومستشار ثقافي لجلالة الملك حيث يحرص جلالته على اصطحابه معه الى مؤتمرات القمة الخليجية والعربية وغيرها من الفعاليات الدولية الأخرى. ولذا فلربما يعد الأنصاري هو ارفع المستشارين الثقافيين للرؤساء والملوك العرب وذلك من حيث مستوى عمق الثقافة والمستوى الفكري النظري والسياسي الذي يتميز به، وباعتباره واحدا من المفكرين السياسيين العرب المتميزين والمعروفين على الساحة السياسية والفكرية العربية، ولاسيما في ضوء ما صدر له من كتب عديدة تتضمن بحوثا ودراسات فكرية وسياسية. ورب سائل يسأل لماذا الرموز والرواد البارزون على الساحة الفكرية والتنظيرية والسياسية معدودون لا يكاد يعرف عنهم عربيا سوى هذين الاسمين، كما ذكرنا؟ قد يعجب المرء أن من لديهم قدرات واسهامات فكرية في هذا المجال، هم بالعشرات وليس هذين الاثنين فقط، ولكن لأسباب موضوعية وذاتية وظروف سياسية وتاريخية معقدة لم تسنح لهم الفرصة للتفرغ الكامل للانكباب على التأليف والبحث النظري والفكري.. وفي اعتقادي الشخصي ان في مقدمة هذه الاسباب انشغال معظمهم بالعملين الحركي السياسي والسري والفكري معا. في حين برزت اسماء مفكرة عربية معروفة انشغلت بهذين المجالين، كما في العراق، الا انها عرفت بإسهاماتها النظرية السياسية والفكرية وكذلك في مصر وبعض الدول العربية الاخرى. وبالتالي يمكن القول ان تمكين المفكرين فخرو والانصاري من التفرغ للتثقيف الذاتي والعمل البحثي العلني حتى خلال سني توليهما مناصب ومسئوليات ادارية رسمية وابتعادهم عن الانشطة السياسية الحركية للمعارضة سواء السرية منها ام العلنية، كل ذلك ساهم في بلورة وبروز اسهاماتها الفكرية والسياسية التي ينبغي ان نعتز بها كبحرينيين جميعا ايا كان اتفاقنا او اختلافنا مع اطروحاتهما، كليا او جزئيا، وأيا كان تقييمنا لمواقفهما من الأحداث والقضايا التي مرت بها الحركة السياسية البحرينية المعاصرة على امتداد الخمسة عقود ونيف التي برزا سياسيا فيها. لقد افتقدت الساحتان الثقافية والسياسية خلال العقدين الماضيين، وعلى الأخص منذ نحو عشر سنوات خلت الكثير من الرموز والرواد المهمين دونما ان تسنح لهم للأسف فرصة كتابة ولو سطور من مذكراتهم، حيث ذاكرة المرء مع تقدم العمر خوانة لا أمان لها، فضلا عن الصحة. ولعل فخرو والانصاري هما من كبار مثقفينا وباحثينا في الحقل الفكري والسياسي حيث تكتنز جعبتاهما بذكريات احداث ومعلومات سياسية تاريخية مهمة لا حصر لها عن احداث سياسية وتاريخية فهما اما شاهدان عليها واما كانا مؤثرين لكل منهما دور في صنعها ولاسيما أن كليهما تولى مسئوليات وتقلد عدة مناصب إدارية رسمية مهمة، علاوة على اسهاماتهم الفكرية وكلاهما محسوبان على التيار القومي العام وحيث هنا يحسب لقيادتنا السياسية بأنها حينما منحتهما ثقتها بتولي تلك المناصب والمهام الإدارية والوزارية فإنها لم تتدخل في معتقداتهما وقناعاتهما الفكرية الخاصة. وبالتالي أرى من الأهمية بمكان، بل ومن منطلق المسئولية الوطنية العليا التي يضطلعان بها واسهاما في كتابة تاريخنا، بأن يسرع كل منهما بكتابة مذكراته قبل فوات الأوان، مادامت صحة وذاكرة كل منهما مازالت بخير. أطال الله في عمريهما ومتعهما بموفور الصحة والذاكرة الحية الدائمة.
صحيفة اخبار الخليج
25 سبتمبر 2008