مطالعة كتاب الفيلسوف الأمريكي » الفين توفلر« الذي كتبه بالتعاونِ مع زوجته هايدى وعنوانه: »إنشاء حضارة جديدة .. سياسةُ الموجة الثالثة«، تطرح سؤالاً يكمن في المفارقة التي تفرض نفسها بين أطروحة هذا الفيلسوف وأطروحتي كل من فوكاياما وهانتجتون عن »نهاية التاريخ« وعن »صراع الحضارات«. نحن نعلم أن الدعاية الغربية نفخت في هاتين الأطروحتين بحيث قدمتهما كما لو كانتا فتحاً جديداً مُبيناً في العلوم الاجتماعية خاصة في الفلسفة وعلم التاريخ، ورغم الثغرات المنهجية البينة فإنهما كانتا وما زالتا مدار بحث مؤتمرات وندوات علمية وأكاديمية وموضوعاً لملفاتٍ متخصصة في مجلات ودوريات علمية رصينة، وتخطتْ حدود الاهتمام بهما الإطار الأمريكي والغربي، لينشغل بهما أهل الثقافةِ والفكر في العالم كله، فيما الصمت والتجاهل يحيق بأطروحة مثل أطروحة توفلر وزوجته عن إعادة قراءة مراحل التاريخ البشري وفق رؤية جديدة باعثةٍ على التأمل. إن الدوائر الأكاديمية الغربية تُقدم تلك الوجوه التي تحت ذريعة نزع الايدولوجيا، تقدمُ أيديولوجيتها الخاصة في التبشير بعهدِ الهيمنة الجديدة في صُورها المبتكرة، وهي ترفض أو تتجاهل أي أطروحةٍ لا تتسق تماماً مع هذا العهد. ومع أننا لسنا مدعوين لتبني تفسير الزوجين توفلر للتاريخ، لكن الاطلاع عليه من زاوية التعرف إلى رؤيةٍ أخرى غير تلك التي تحظى بالرواج أمرٌ مفيد، لأن ذلك يُوفر إمكانيةً للنظر بشكلٍ آخر لما يجري في المجتمع المعاصر . برأي توفلر إننا نعيش اليوم» حضارة الموجة الثالثة«، وجوهرها هذا التغلغل الواسع لمنجزات العلم والتكنولوجيا المعقدة في الاقتصاد والتي غيرت حياة المجتمع وحالته النفسية. إن المعرفة في مختلف مجالات الحياة هي السلعة الرئيسية لحضارة الموجة الثالثة، حيث تزيح إلى المرتبة الثانية الخامات الطبيعية ورأس المال والطاقة وموارد العمل، وبالتالي فان النظريات الاقتصادية المؤسسة فقط على الانتفاع بالثروات المادية لن تعود كافيةً لتفسير ما جرى وما يجري. يُقسم الزوجان توفلر التاريخ البشري إلى ثلاث موجات رئيسية: الموجة الأولى هي الموجة الزراعية والتي امتدت حوالي عشرة آلاف عام، بدءاً من الألف الثامنة قبل الميلاد وحتى حوالي ٠٥٧١ميلادية، عندما كفّ التطور الزراعي عن النمو مقابل نمو الصناعة في دول أوروبا الغربية، حيث حلتْ الموجة الثانية، أي الموجة الصناعية، التي ما زالت مستمرة نظرا للتطور غير المتكافئ بين دول العالم، حيث أن هذه الموجة التي بدأت قوية في أوروبا أخذت في الانتشار في كل القارات، وهي لم تفقد بعد كل طاقاتها، بيد أن الموجة الثالثة، أو ما بعد الموجة الصناعية، قد أخذت في شق طريقها بقوة منذ منتصف القرن العشرين، والعالم هو اليوم ساحة تجاذب بين نزعتي تطور مختلفتين. إن الموجة الثالثة التي هي في ذروة اندفاعها تحدث من الآثار النفسية والمعنوية الشيء الكثير، وتؤسس لمفاهيم وتصورات ثقافية وأخلاقية جديدة. وهذا التفسير المختلف لتطور التاريخ يتطلب فهما مختلفا للعمليات الجارية، غير ذلك الفهم الذي يريد أن يضع نهاية للتاريخ، أو يفسر العمليات الجارية فيه، بما فيها المواجهات الدامية، كما لو كانت مجرد مواجهات بين الأديان والحضارات والثقافات.
صحيفة الايام
25 سبتمبر 2008