لعب قانون الصراع الاجتماعي التقليدي دوره في الحركات المذهبية السياسية التي نشأت على أساس تغير الخريطة التجديدية العربية وانتقال مركزها إلى مواقع إنتاج النفط، وهو قانون التفتت المستمر لهذه الحركات نظراً لإنتاجها السياسة داخل الدين، فلا يغدو الخلاف السياسي سوى خلاف ديني، وهو أمر يتنامى مع تفاقم الصراع السياسي. يدخل الصراع الطبقي المحوري في كل مجتمع إلى داخل كل حركة دينية، لكن الفارق بينها وبين الحركات التحديثية اللادينية، أنها لا تفهمه وترفضه، وهي ظاهرة موضوعية مثل قانون الجاذبية، فيبدو لها ذلك الصراع كانحراف عن الاستقامة الدينية وكنزوع للكفر والانحراف عن الإيمان الحق. وهكذا فإن حركة الإخوان المسلمين بعد التآكل المستمر للنظام الناصري ومجيء الضربة الإسرائيلية العدوانية، راحت تسود في وعي الفئات الوسطى المصرية وتتغلغل في عامة الناس. ويؤدي القمع إلى تقبل الناس لمثل هذه الحركات ووصولها للقاع الاجتماعي.
ولم يستطع علم النظام أن يتنبأ بالهزيمة في يونيو أو أن يكشف الفساد في مراتبه العليا، فاصبح خاضعاً لقدر غير مرئي، وتداخلت عودة قيادات الاخوان من السعودية بمناخ الهزيمة والارتداد الفكري عن الحداثة، وبظهور نظام السادات الذي عكس صعود الأقلية الاستغلالية في النظام البيروقراطي الناصري إلى سدة الحكم بشكل كلي. وإذ هي شجعت القوى المذهبية السياسية فإنها اعتمدت سياسة فرق تسد بين القوى المذهبية الدينية وقوى التحديث، لتصعيد استغلال ونفوذ تلك الأقلية التي فتحت لها الأبواب على مصاريعها. وكان النظام الناصري قد لجم الصراع الطبقي، وكون معيشة معقولة للعمال والفقراء. فجاءت التطوراتُ لتفجر الصراع الاجتماعي المحبوس، خاصة ان النظامَ الجديد قد فتحَ بعض القنوات السياسية العلنية، فوسع المشكلات الاجتماعية بشكل خطير ثم صعّد أدوات سياسية معارضة تفجر هذه المشكلات، فتمظهر ذلك بثورة أسعار وجياع وقتل رئيس النظام نفسه. عبر هذه التطورات دخل الصراع الاجتماعي المصري العميق إلى حركة الاخوان التي كان صراعها الوجودي مع النظام الناصري، قد جعلها تعيش في لغة ماضوية، فتكرس مثلها مثل الحركات المذهبية السياسية تجريدات ذلك الصراع ومستواه المعرفي، فكانت رؤيتها لكون النظام الناصري نظام كفر ونظاما فرعونيا واستيرادها مختلف المقولات الجاهزة من العصر القديم، قد أدى إلى أن تبث في جماعات من العامة مثل هذه المقولات الخطرة، وكانت لها سابقاً قبل هذا الاحتدام مع النظام العسكري الشمولي بعض الآراء الليبرالية الواعدة كما كان لها وعيها الشمولي العسكري هو الآخر المصور على أساس انه الجهاد. وهكذا فإن الدكتاتورية السياسية أضرت بكلا الفصيلين المناضلين الناصريين والاخوان، ولكن مع ذهاب النظام الناصري تبدلت الحياةُ السياسية وحدثَ اصطفافٌ جديدٌ للقوى الاجتماعية، وأخذ الصراع الاجتماعي يحتدم، ولم يكن ثمة قنوات وحتى الآن سبيل لتغيير ذلك، من دون وحدة القوى السياسية الشعبية المصرية ضد البيروقراطية الاستغلالية الحاكمة لنصف قرن. لكن اللافتات الدينية كانت تفرق الشعب المصري أولاً بين مسلمين ومسيحيين، ثم بين المسلمين أنفسهم على أساس المذهبية السنية ودرجات تطبيقها وفهمها، فهناك المعتدلون وهناك الغلاة، وهناك العلمانيون الاجتثاثيون للإسلام الخ.. لقد غدا فكر الإخوان المسلمين هو فكر البؤرة النضالية السياسية لأغلبية النشطاء السياسيين، وبسبب المقولات الدينية السابق ذكرها للجماعة، فإن التطبيق الحرفي للإسلام التأسيسي، المأخوذ بشكل غير دقيق، قد أدى إلى مدرستين، إلى تأويل النصوص لشيء من الليبرالية والحداثة، وهو الطابع السني الغائر المتدرج الإصلاحي العقلاني، وإلى البقاء عند النصوص الحرفية ورفض الحداثة والديمقراطية تماماً. كان هذا الانقسام بسبب بث الخطاب الديني المسيس عبر مقولات: الجنة أو النار، المؤمنون أو الكفار، وهو خطابٌ يسترجعُ ليس وعي السنة بل وعي الجماعات الخارجية، غير المدنية والبدوية، وهو أمرٌ يعبر عن الانقسام في الجماعة نفسها بين القلة الغنية والقطاعات العامة المفقرة والرثة، فتم استخدام المقولات الاخوانية الأولى وخاصة لمرحلة سيد قطب، التي هي أقرب لمقولات الخوارج منها للسنة، والتي عادت تتجسد في بيانات حارقة لأهل الكفر، والرفض العارم (للجاهلية) الجديدة. ومن جهة أخرى فإن الجماعة الوسطية السنية مع تقاربها مع التحديث لم تتبن التحديث كلية، أي لم تنقل إلى وعي العلمانية والديمقراطية والوطنية، متصورة ذلك كنفي للإسلام، لكن ثمة اجتهادات أخرى صغيرة في الجماعة تحاول أن توجد مثل هذا المركب الصعب. وهذا ليس صراعاً على المقولات والنظريات بقدر ما هو تعبير عن مستوى هذه الفئات الوسطى المتذبذبة بين القديم والحداثة، والتي غذت فئات شعبية مُعدمة بمثل هذه الأفكار فحولتها نظراً لمحدودية فهمها للإسلام والعلوم إلى (جهاد) دموي وهجرات للمناطق المهجورة والجبلية، وإلى تقبل للمأثور مهما كان، فغدت موجات من اللاعقلانية والارهاب. إن عدم قدرة الجماعة على الفهم العصري الديمقراطي للإسلام يعود لضخامة أفكار التقليد الموروثة، ولتحويل الدين إلى دولة، وبالتالي إلى عدم تبني التصورات السياسية العصرية اللادينية، وهي تعني قيام دولة مصرية علمانية، أو عراقية علمانية الخ، بمعنى أن تجعل الاشتغال بالسياسة سياسياً فقط، أما الحقول الأخرى فهناك حريات للمؤمنين بما يعتقدون. وهذا يعود لإرث الجماعة، التي عاشت على مقولات المؤمن والكافر، وعلى شحن أعضاء الجماعة السياسية بالموروث الديني، الجاذب، والمقدس، والذي يغدو واسعاً وشعبياً، يمكن من خلاله الوصول للحكم، ولمقاعد البرلمان ومجالس النقابات. ولكن لهذه الشعبية التسلقية آثارها الخطرة، فسوف يأتي زمنٌ يتفاقم فيه الكفر بالإسلام، نظراً لهذه الوعود الخلابة التي تـُعطي بلا حساب باسم الدين، ويجد العامة المخبولون بهذه الجنان الأرضية، أنهم يعودون لذات السياسة القديمة للطبقات الاستغلالية. وإذا أضفنا بأن الاتجاهات التحديثية ستعمق عداءها للإسلام، بسبب هذه السطوات، فإن زمناً من الفوضى وسيطرة الليبرالية المنفلتة من كل انتماء وطني أو ديني أو عقلاني يلوحُ في الأفق، وهذا ما يتغلغل في جمهورية إيران الطائفية التي تبنت هذا الدواء الداء.
صحيفة اخبار الخليج
24 سبتمبر 2008