يسألك المتتبعون للأخبار كونك مصاب بداء السياسة، وهو داء لا يعرف حالة التقاعد، ولا مؤشرات انك دخلت في وضع الشيخوخة السياسية وربما الخرف، فعليك أن تلهث وراء كل ما يدور حولك، طالما انك تنتمي للعصر الذي تعيش. ما رأيك في أزمة المهجرين في العراق وكيف ستواجه الدولة محنتهم؟ فهناك للمعضلة جانبان أو وجهان إنسانيان، الأول قانوني والآخر إنساني، ولا يمكن طرق أبواب بيوت باتت مسكنا لشريحة من الشعب، لم يجد خياره وهو يهرب من أتون الموت ومخالبه إلا سقف بيوت آخرين، مارسوا وضعية مماثلة هو هروبهم من الموت كذلك. حان الوقت لكي يعود الإنسان إلى داره ويسكن في بيته كحق مشروع من حقوق الملكية الفردية وهي مرتكز أساسي في الدستور لمن يفهم أيضا ما معنى الحريات بمفهومها الواسع.
المسألة سهلة لمن حملوا القرار وطرقوا البيوت، ولكنها كانت صعبة للغاية لمن عاش بـ »وهم« أن يصبح له »دار أمان«. من يسارعون في إخلاء البيوت لأصحابها الشرعيين، عليهم في الوقت ذاته أن يهيئوا للطرف الآخر حقه البديل، فهؤلاء أيضا عراقيون وليسوا مكبة زبالة تنقل من حالة استقرار إلى أوضاع مزرية بلا استقرار! في الجانب الآخر عندما بدا السؤال أهم: هل أنت متابع لما يدور في قمة دمشق الرباعي؟ كان جوابي كالعادة »حالي من حال العرب« فمن منا لا يحب رباعيات الخيام، أو الكونشرتو الرباعي الوتري لبيتهوفن، غير أن الآخرين مولعون »بالهيام الرباعي« في جورجيا، فهناك خصوم رباعية بارزة في هذه اللحظة كالبيت الأبيض الأمريكي وجورجيا المدللة، وأوكرانيا المضطربة التي لا تعرف أين تضع قدماها في الجغرافيا السياسية (الجيوبولتيك)، لتاريخ طويل من العلاقات الرفاقية لدولة عظيمة لم تجتث جذورها من التربة الأوكرانية، فما زال »الاتحاد السوفيتي« حلماً في ذهن الشارع الأوكراني، وفي الوقت ذاته هناك عشاق جدد في ذلك الشارع يغنون بلغة أمريكية ويفضلون هجرة اللغة الروسية، فهم يتبجحون أنهم بحاجة للخلاص من هيمنة تلك اللغة (السياسية أيضا) يقعون بالمقابل أسرى لهيمنة لغة جديدة، في القبول بالزواج من العريس الجديد في المنطقة كحلف الناتو، متوهمين عشاق هذه المرحلة أن الناتو قوات حماية لهم من الغزو الروسي المنتظر، وبأن الناتو فعلا قوة همها حماية الحريات الواسعة للديمقراطيات الجديدة في المنطقة، متناسين عشاق هذه اللحظة أن الديمقراطية الروسية أيضا صناعة غربية وبماركة أمريكية مسجلة، غير أن الفارق الكبير بين حلم يلتسن وبوتين في بناء دولة عظمى في القارة الأوروبية مختلف أولا وفي كافة أنحاء العالم، وهو الحلم القومي العميق لكل جيل بوتين، الذي لا يمكنه أن يقبل بروسيا منهارة، ضعيفة، وملحق صغير في قاطرة الغرب، فروسيا ليست فسيفساء بلدان البلقان، ولا جزيرة من جزر أرخبيل الانتيل الخاضع لأوامر الكومنولث القديم. كان على عشاق اللحظة المتيمين أن يفتحوا عيونهم بكل وضوح إن خارطة بلدهم وجغرافية الأمكنة مرهونة بالتاريخ أيضا، وبتوازنات لا يمكن التغاضي عنها، لا عسكريا ولا اقتصاديا، لهذا كانت روسيا هذه المرة هي من تقود عزف تلك الكونشرتو في المنطقة، وهي مستعدة – كما يبدو – أن تلعب بالأوراق القفقاسية كلها، فتلك البقعة الحيوية والجيواستراتيجية، لا يمكن للدب الروسي تركها تضيع من أنامله وأنيابه. وبما أن حالنا من »حال العرب« في تتبع قمة رباعية هامة في الشرق الأوسط تكون دمشق مفتاحها وعمودها الفقري، فان الملفات التي تم تداولها قديمة / جديدة، غير أن القمة تحاول الإسراع بقطار الوقت المبطئ، بالرغم من أن الوضع الإسرائيلي والأمريكي يعيش حالة فقدان التوازن السياسي بسبب الانتخابات الرئاسية، والتي من المتوقع أن تستبدل فيها جلود الثعابين (تعبير مجازي)، وتتحول إلى هيئة تماسيح تخوض في البحر الأبيض المتوسط، وبرغبة بلدان شرق أوسطية لعب دورها الإقليمي. تلك الدول التي تسعى لإبعاد المنطقة عن أتون الحرب ووضع أسس الحوار السياسي لمعالجة كل المشاكل العالقة – وهي أهم خصلة حميدة لهؤلاء الوسطاء »الطيبين« في عالم تميز بوحشية العولمة، إذ بعثت روسيا في الأزمة الجورجية برسالتها للقوى العظمى، عن إن العالم ينبغي أن يشاد على مبدأ التعددية القطبية، وربما ما يمثله ساركوزي من ازدواجية في الحوار »نموذجا صارخا« عندما يحاول دائما أن يبرز نفسه وحزبه بل وشخصيته عن خطاب كتلة يمثلها، وبأنه متفرد ويغني للعالم الجديد بلغة فرانكو – أمريكية، متناسيا انه عضو في الاتحاد الأوروبي! فيما اهتم صوت مجلس التعاون الخليجي بنبرة واقعية وعاقلة طحنتها حروب مجاورة، لوثت مياهها وهزت مشاريعها التنموية »ولخبطت« خططها المستقبلية، لهذا تعلمت من أن علاقة الجوار ومشاكلها لا تحل بالقوة، وهذه الحكمة الخليجية ينبغي على ساكشفيلي تعلمها، وإلا ضاعت عليه كل جورجيا أو أكثر من القطعتين المنزوعتين حاليا، وهي اوسيتيا الجنوبية وابخازيا. أما إخوتنا في الإسلام تركيا، فان توازن القوى والمصالح الاقتصادية والاستثمارية تشكل توجهاتها الجديدة، ما يجعلها لاعبا مهما، بدأ يواصل أكثر لعبته مع الجميع، بحيث تصبح تلك الدولة الكبيرة نقطة ارتكاز هام بين قارات ثلاث مستقبلا، فلن تنزعج منها كل السياسات الخارجية، فهي تعزف في الكونشرتو الرباعي لحنا متناغما، فرجلها في آسيا الوسطى وحضنها في روسيا وقلبها في الناتو وعقلها في الاتحاد الأوروبي، بينما كل كيانها التاريخي صار أورو – إسلامي، فالكمالية المتمدنة من منظور حكام أنقرة مفادها، إن الدين والعلم وصراع الحضارات لا تتعارض، مثل السياسة البراغماتية الحالية قابلة للتعايش جنبا إلى جنب. وسيط يحسن اللعبة ومقبول من جميع الأطراف المباشرة وغير المباشرة.
صحيفة الايام
24 سبتمبر 2008