لا تبدو مفهومةً التدابير التي اتخذتها إدارة الأوقاف السنية ضد الشيخ صلاح الجودر، إلا إذا كان السبب وراءها لا يتصل بما يقوله على المنبر الديني أو في كتاباته الصحافية، وإنما يتصل بالمواقف العملية التي يتخذها الرجل في سعيه لترميم الشرخ بين مكونات المجتمع الطائفية والمذهبية. ومواقف الشيخ صلاح، سواء في خطبه أو في كتاباته أو في نشاطه الميداني تلتقي مع الدعوة التي أطلقها جلالة الملك بالتقارب بين المذاهب، وتشجيع الحوار بين أصحابها، ونبذ القطيعة، وهو ما دأب الجودر على التأكيد عليه مراراً، وقاله لكل من اتصل به في اليومين الماضيين داعماً ومؤازراً. الشيخ صلاح الجودر يمثل حالةً متقدمةً في الخطاب الديني والسياسي، في تجاوزه للحساسيات الطائفية والمذهبية، وترفعه على الصغائرِ الناجمة عنها، وفي تمسكهِ بالوسطيةِ والاعتدال وسيلةً للدعوة بالتي هي أحسن، وفي تبنيه للقضايا الوطنية العامة التي تُوحد أبناء هذا المجتمع، ويمكنني أن أُضيف انه من رجال الدين النادرين في هذا البلد الذي أظهر مقدرةً في الانفتاحِ على الآخر، إسلامياً مثله أو وطنياً من التيارات الأخرى، من خلال مشاركاته في الفعاليات الوطنية الجامعة. وهو بهذه الوسطية والاعتدال والتسامح لم يتخلَ عن قناعاته ومواقفه المستقلة، وعما يراه صحيحاً، فهو يُجاهر بآرائه، دون أن يرى في ذلك ما يُعيق التفاهمَ مع الآخرين، والوصولَ إلى مشتركات معهم. المُحزن أن المعنيين بمراقبة الخطاب الديني لم يجدوا إلا صاحب هذا الصوت المتسامح، المعتدل هدفاً لإجراءاتهم، فيما المنابر تضج بخُطب التكفير والشحن الطائفي وبث البغضاء المذهبية، وكل ما من شأنه أن يبعث على الفرقة، لا بل والفتنة. وهو أمر يدعونا للسؤال: لماذا يكون صوت الاعتدال والتسامح والوحدة الوطنية هدفاً لمثل هذه الإجراءات، وهل يُدرك من يتخذها نتائجها السلبية على صعيد إفراغ الساحة الدينية والمجتمعية والسياسية من نهج الاعتدال والوسطية والمجادلة بالموعظة الحسنة، لتترك هذه الساحة لغُلاة المتعصبين والمتشددين والمنافقين، الذين قادونا لما نحن عليه من فرقة، ويمكن أن يقودنا إلى ما هو أسوأ من ذلك، إذا ما تُركوا منفردين يصولون ويجولون، فيما التغييب من نصيب المعتدلين وخطاب الاعتدال الذي يُمثلونه، ومن هؤلاء الشيخ الجودر شخصياً. نحن ضد الاستخدام السياسي الحزبي للمنابر الدينية، وقلنا هذا الكلام مراراً، ودعونا إلى فك قبضة دُعاةِ هذا الاستخدام على المنابر الدينية، لكن ما يقولهُ الشيخ الجودر وما يكتبهُ لا يندرج ضمن نماذج هذا الاستخدام، انه خطاب وطني جامع ينطلق من المقاصد السمحاء للشريعة وللدين في الإعلاء من قيمةِ الحوار والأُخوة، ونبذ الظلم والفساد بأنواعه، لا الفساد الأخلاقي وحده، والدعوة إلى إزالة الظلم وتصحيح الأوضاع من منطلقِ الولاء للوطن ودعم المشروع الإصلاحي والذود عنه. الاعتراف بالخطأ فضيلة، والمطلوب ممن اتخذوا ما اتخذوا من تدابير ضد الشيخ صلاح ليس الاعتراف بخطأهم فحسب، وإنما تصحيحه بالعودة السريعة عنه، صوناً للصدقية، وحتى لا نحسب أن هناك من يسعى لتغييب صوت الاعتدال، وتسييد صوت التعصب والبغضاء.
صحيفة الايام
23 سبتمبر 2008