مع تحول المركز المهيمن على الخريطة العربية بين شبه الجزيرة العربية وإيران عادت الأشكالُ المذهبية المحافظة إلى السيطرة على الأشكال السياسية التي انفلتت في فترة طويلة من هذه الهيمنة، وغذت تطورات تحديثية كبيرة. لقد كان مركز التطور العربي دائماً في المشرق، بين العراق وسوريا ومصر، وأدت السياساتُ النفطية إلى انضمام الجزيرة العربية وإيران إلى هذا المركز. إن تعقيدات الصراعات المذهبية والتيارات العصرية كبيرة والكثير منه متوار فليس هو سوى صراع مذهبي، وأن تلبسَ لباسَ تلك التيارات الحديثة التي لم يتمْ استيعابها حتى في بلدانها المصدرة كروسيا.
فبماذا نفسر الصراع في الحركات القومية التي نشأت بعد الانقلابات في مصر والعراق وسوريا؟ لقد قيل انها صراعات بين نظام جمال عبدالناصر وعبدالكريم قاسم ثم البعث بعد ذلك وأن خلافها كان قوميا؟ لكن الصراع بين نظام عبدالناصر وعبدالكريم قاسم اتخذ له طابع الصراع بين السنة والشيعة المتواري. لقد أكد نظامُ عبدالناصر ريادة المذاهب السنية التحديثية وانتشارها القومي التحرري العربي الواسع، وكانت هناك منطقتان إسلاميتان كبريان مختلفتان معه، هما المنطقة الشيعية والمنطقة الوهابية، وكلتاهما تقوم معارضتهما على دواعٍ مختلفة، فكانت منطقة عبدالكريم أقرب لليسار والعامة، والمنطقة الوهابية أقرب للارستقراطية، لكن منطقة قاسم تعبرُ عن رفدٍ شيعي واسع للحزب الشيوعي العراقي الذي كان يضم جمهوراً كبيراً منه والداعم لنظام قاسم، وهكذا أخفى الصراع الذي دار بين قيادتين شموليتين فرديتين، قيادة عبدالناصر وقاسم، صراعاً بين يمين الفئات الوسطى في مصر ويسارها في العراق، وفي الأعماق كان ثمة صراع بين التوجه السني الحاكم في مصر والتوجه الشيعي المتواري في العراق. مثلما كشف ذلك أيضاً عن الصراع بين أمريكا وروسيا أيضاً. إن الرافدين الشيعي والشيوعي عبرا عن هواجس مذهبية ضد تنامي حركة القومية العربية وقتذاك، ذات الأغلبية السنية الكاسحة، وبين هذا محدودية الأفكار السياسية والفقهية في كلا الجانبين، فهناك قصورٌ في فهم الفكرين التقدمي والإسلامي معاً. ودفع الطرفان ثمناً باهظاً في ذلك أثر في مسارهما التالي. إنها عدة مستويات من الصراع. وهي تعبرُ عن محدوديةِ وعي القوى السياسية العربية وقتذاك، وكون القيادات العسكرية الفردية التي صعدتْ بسرعة شديدة وتهاوت بسرعة كذلك، لم تقمْ على قواعد شعبية قوية، وتنظيمات جماهيرية ديمقراطية، أو على معرفة دقيقة بالعصر والإسلام. إن الضباط الأحرار والحركات الشيوعية ورجال الدين المسلمين الذين أيدوا الأنظمة العسكرية، في هذا الطرف أو ذاك، اعتمدوا على فتاتٍ فكري مستورد أو محافظ لم يُصنع في الأرض العربية العلمية. بعد سقوط نظام عبدالكريم قاسم وصعود البعث وبقاء النظام الناصري متجدداً باتجاه اليسار، أكدتْ الاتجاهاتُ السنيةُ سيطرتها على خريطة المشرق السياسية، وكانت اللحظة اقصى ما بلغته تلك الاتجاهات من تطور. فقد عبرتْ عن لحظةٍ تحديثية كبيرة للأمة، فالعلاقاتُ بين الرجال المسيطرين والنساء حدث فيها تقدم مهم، لكن ليس جذرياً، فقوانين الزواج والإرث وغيرها تلحلحتْ قليلاً، لكن لم تصل إلى درجة تجسيد المساواة القانونية. كذلك فإن العلاقات بين الحكومات والشعوب طرأ عليها تقدم، فالجمهور صار على المسرح مؤثراً، وراحت الحكوماتُ تدخلهُ في تنظيماتها السياسية، ولكن كان عليه أن يكون تابعاً لها، وظلت قوانين الطوارئ تحكم، وحريات النشر والتجمع بيد السلطات. ومن جانب المذاهب السنية الحاكمة فقد تمت تنحيتها، فلم تلعب دوراً مؤثراً في صياغة الحياة السياسية أو في المشاركة المؤثرة فيها، نظرا إلى كون الحركات التحديثية – التقليدية هذه جاءت عبر انقلابات فوقية كما قلنا فقدرتها على صياغة نظرية تحولية عربية – عالمية، محدودة جدا، وهي تعيش على الأوامر والسيطرة الفوقية، ولهذا كانت استعانتها بالمفكرين الإسلاميين استعانة وظيفية (برجماتية)، فنذكر هنا كيف جعل محمد عمارة الإسلامَ اشتراكياً، وكان ذلك توظيفاً سياسياً حكومياً أكثر منه قراءة عميقة للإسلام، أي أن هذا المفكر لم يطرح العلمانية والديمقراطية كمسار ضروري لتطور الثورة، وعدم طرحه ذلك ينقض دكتاتورية الحكم والحركات المذهبية معاً التي لا تقدر على فهم هذا المركب.
صحيفة اخبار الخليج
21 سبتمبر 2008