تكملة لمشهد الصراع القوقازي المستفحل وتداعياته ضمن خريطة النفوذ والهيمنة من قِبَل الأقوياء في الشرق والغرب ، المتركز في هذه المنطقة الحيوية الإستراتيجية ، الواقعة على مفترق طرق مدّ المشاريع العملاقة لخطوط أنابيب النفط والغاز القادمة من حقول نفط بحر قزوين والمتجهة للدول الأوروبية لتصب في ماكينتها الإنتاجية والصناعية. وتأثير هذا الصراع الجاري وتداعياته المستقبلية على مجموعة من الدول الكبيرة والصغيرة في هذا المحيط الجغرافي الفاصل بين آسيا وأوروبا ، بجانب التأثيرات المباشرة على روسيا الاتحادية نفسها( بما فيها الجمهوريات والأقاليم العديدة وجمهوريات الحكم الذاتي القوقازية ) كون هذا النزاع يشكل جوهر هجوم منهجيّ غربي / أمريكي لتفتيت القوة القارية لروسيا (يوروآسيا) ، بُغية اختراقها من مجالها الحيوي والتمكن منها في مقتل . بجانب التأثير المباشر على مجموعة من دول حوض بحر الأسود المهمة كأوكرانيا وتركيا ودول القوقاز الثلاث ( جيورجيا / أرمينيا / آذربايجان ) بالإضافة إلى الدولتين الجديدتين المنبثقتين توا على خارطة العالم ؛ أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ,, لكل هذه الأسباب سيكون مفيدا – بالطبع- تسليط ضوء سريع على أهم تلك الدول التي ستعنيها قبل غيرها التطورات المرتقبة ونعني بها ؛ أوكرانيا .
شكلت أوكرانيا على الدوام العمود الفقري لقوة روسيا وسلة الغذاء في العهد السوفيتي . بل أن انبثاق الدولة الروسية تاريخيا سميت “روسيا كييف” ، نسبة إلى الحاضرة الأوكرانية “كييف” . ويعتقد بعض الخبراء أن روسيا نفسها تعتبر دولة عظمى مع أوكرانيا وبلد عادي بدونها. من هنا يجب أن ندرك أهمية أكبر دولة أوروبية من حيث المساحة لروسيا ولأوروبا، عدا كونها دولة صناعية/زراعية/نووية، بالرغم من مشاكلها وصراعاتها المتسمة بالمفارقة .. تعاني أوكرانيا من مشكلة ديموغرافية في المقام الأول بجانب مشاكلها الاقتصادية والسياسية ، متجسدا في النقص في موارد الطاقة لديها ، حيث تعتمد على النفط والغاز الروسي في الوقت الذي يحاول فيه سياسيوها المتنفذون الحاليون معاندة روسيا والارتماء في الحضن الغربي/ الأمريكي ، محاولين الانضمام للاتحاد الأوروبي والناتو ! لذلك فان التأثير الكبير الذي نشاهد الآن مقدماته تتفاعل في الساحة السياسية الأوكرانية بعد الإحداث القوقازية الأخيرة سيكون مدويا، بشكل يكون فيه من الصعوبة بمكان التنبؤ بما ستتمخض عنها التطورات اللاحقة في ميزان القوى العالمي وتأثيرها على الوضع الأوكراني الداخلي الهش.. حيث يتمركز الأوكرانيون / القوميون المتشددون، المعادون للروس في غرب أوكرانيا (حاضرتهم مدينة لفوف) أما الشرق الأوكراني المعروف بالأقاليم فان جُلّ سكانها يتكون من نتيجة التزاوج المختلط بين الروس والأوكرانيين على مدى التاريخ المديد والمشترك للشعبين . هذا إن لم نحسب وضع شبه جزيرة القرم الإشكاليّ، التي أصبحت جزءا من أوكرانيا في الأمس القريب أبان عهد خروتشوف ، حيث يعيش فيها أغلبية روسية ساحقة! ومن هنا من الممكن أن ندرك الخطورة المستقبلية على وحدة الأراضي الأوكرانية إن تمادت في سياستها غير المتوازنة بين الشرق الروسي والغرب الأمريكي !
لعل الخلاف الحالي الذي طفح على السطح في البرلمان الأوكراني ، على أثر حسم الصراع العسكري في حرب القوقاز الأخيرة .. المتمثل في انهيار تحالف القوى السياسية الاوكرانية المساندة للغرب وانفتاح الباب واسعا على احتمالات عديدة لا يمكن التنبؤ بها.
تتصارع الآن أربع قوى سياسية ممثلة في البرلمان وهي ؛ كتلة أحزاب الأقاليم الذي يرأسها ” يانو كوفتش” ، المؤيد للتعاون مع الروس ( له قوة أكثر قليلا من الثلث) . ثم كتلة سيدة أوكرانيا الحديدية “توموشنكو” التي تستحوذ على اقل قليل من الثلث . ثم كتلة حزب رئيس الجمهورية “يوتشينكو” والمتحالفين معه (بلادنا أوكراني/الدفاع الذاتي) بقوة تقترب من 15%. وأخيرا الحزب الشيوعي الأوكراني 6 % .. بجانب قوى سياسية اقل شأنا أهمها كتلة ”ليتفين” ( رئيس البرلمان السابق/ في حدود 3%) والحزب الاشتراكي (في حدود 2%)
على الرغم أن أوكرانيا عقدت جولتين من الانتخابات البرلمانية منذ “الثورة البرتقالية” في سنة 2004 ، إلا أنها لم تعرف الاستقرار بعد . في هذا السياق يرى بعض المحللين أنه ما لم يتم إدخال تعديلات على القوانين الانتخابية فان الخلافات السياسية المتأتية من الطموحات الشخصية لن تتغير بل سيستمر التوتر لفترات أطول. يتكون البرلمان الأوكراني من 450 نائبا، تكون الائتلاف الحاكم السابق المنهار من 227 نائبا ، قادما من تكتل يوتشينكو وحزب الدفاع الذاتي لشعبنا الاوكرانى مع كتلة تقوده السياسية الصاعدة والطموحة لرئاسة الجمهورية ” ايوليا تيموشينكو” ، التي سبق أن تولت رئاسة الحكومة بين فبراير/شباط وسبتمبر/أيلول 2005 قبل أن يقيلها يوتشينكو، على خلفية خلافات شخصية وصراع على السلطة في صفوف الفريق المنبثق عن الثورة البرتقالية.
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها في عام 2010 ، التي سيتنافس فيها الخصمان اللدودان والشريكان السابقان رئيس الجمهورية ورئيسة الوزراء، فان صراع السلطة وصل إلى نقطة الغليان. ولا يوجد مخرج إلا بثلاثة احتمالات .. الأول هو إمكانية تخطي أعضاء الائتلاف الحاكم خلافاتهم عن طريق التشاور لإعادة تأسيس الائتلاف السابق. ولكن يعتقد محللون سياسيون إن تبادل الاتهامات الشرس الذي حدث مؤخرا اضعف الأمل في تحقيق هذا الحل. وهناك حل ثان ، هو تشكيل ائتلاف حاكم جديد يلعب تكتل تيموشينكو وحزب المناطق/الأقاليم دورا مهيمنا في الائتلاف الجديد.أما الحل الثالث فهو قيام يوتشينكو بحل البرلمان والدعوة لعقد انتخابات جديدة، كما هدد بالفعل. ومن الجدير بالذكر، وفقا للقانون الأوكراني ، يجب على البرلمان تشكيل ائتلاف جديد خلال 30 يومأ من حل الائتلاف السابق وإلا فان الرئيس يمكنه حل البرلمان.
تبدو الحياة السياسة في أوكرانيا وكأنها تقف أمام خيارات صعبة ومعقدة، يصعب فيه قوى الائتلاف السابق زيادة عدد مقاعده في ظل انشقاق داخلي ورغبة عدد من نوابه الانسحاب منه، كما أن إعلان الحزب الشيوعي رفضه المشاركة في أي ائتلاف مع حزب الأقاليم يعقّد أيضا بشكل كبير مساعي الأخير نحو تشكيل ائتلاف. أما فيما يتعلق بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة فإنه لن يحل المشكلة بل سيؤجلها، وخاصة أن الشعب قد سئم الانتخابات و غالبيته لا ترى فيها إلا عودة للوراء، وشككت بأن تسفر نتائجها عن تغيير حقيقي في خريطة البلاد السياسية، معتبرة أن هذه حقيقة يعلمها الجميع وتعلمها القوى والأحزاب جميعها، ما لم يتفق العقلاء على إستراتيجية جديدة تغير التوجهات الحالية لاوكرانيا.