يقف المرء حائراً أمام جملة من القضايا والأوضاع التي تثار بين حين وآخر، لتشويه الآخرين من شخصيات وطنية تاريخية، عاشوا سنوات ثمينة من حياتهم في المنافي، يجرون معاناتهم ومعانات أولادهم وأسرهم لغايات وطنية نبيلة ولأهداف سامية.
ولكن المؤسف أننا أصبحنا في وضع يلزمنا بالتحاكم القائم في بنية وثقافة الإقصاء والإحلال، الذي يتجه أبدا نحو نفي الآخر لمآرب ذاتية أنانية تهدف إلى شخصنه التاريخ واختزاله في ذاته، بحيث يصبح هو ذاته الأنموذج الرائع والأفضل عن بقية رفاقه، من خلال تسخيفه للآخرين ” الذين تخلوا عن زملائهم حسب تعبيره، وتركوهم يموتون كما جرى للرفيق علي مــدان… وحميد عواجي وعزيز ماشاءالله، وأخيرا جمال عمران وغدا آخرون “، بما يحيله وحده بين جملة المتباكين الأتقياء، أما الآخرون فقد جحدوا رفاقهم.
وهذه إحدى اشتراطات عدم الاعتراف بدور وتضحيات الآخرين، وهو نمط إقصائي حاقد تميز به بعض اليساريين عن غيرهم، من خلال امتصاص التاريخ النضالي لزملائهم ونكران تضحياتهم، وقولبتها في الذات هو، وفى صورة الأنا، الأمر الذي يجعلنا في حالة نزاع مستمر، ولا تزال العقلية ذاتها والأشخاص الحاقدين على وحدة القوى والشخصيات التقدمية ذاتهم لم يتغيروا، فالمواضيع التي تسيء لتلك الشخصيات التقدمية يعتبرها هذا البعض غنيمة وسبقاً، وكأن مفاهيمنا الأخلاقية لا تسري إلا على بعضنا البعض عندما نقول للآخرين ما هو ليس منطقياً بادعاء بعضنا أو احدنا انه هو الأفضل من خلال استمراره إطلاق الأحكام الأخلاقية تصريحاً وتلميحاً ضد رفاق الأمس.
وكائن من يكون هذا الفرد فقد أكون ” أنا ” أو غيري من الأشخاص ” الرفاق “، وهى حالة تجعله يحمل في ذاته فردا مفككاً، لا نستطيع أن نتبين الدواعي التي تجره لاستعمال تلك اللغة أو العبارات لتشويه الآخرين، وهم كثيرون ضمن التيار الديمقراطي ” اليسار التاريخي ” فهل أفلس لحد الطعن في رموز وصانعي هذا التاريخ، بحيث أصبحت ثقافة يتلذذ بها هذا البعض دون أدنى حرج، بعد أن غادروا ” اليسار ” وأصبحوا ممن يشايعون خليطاً من الأفكار والمذاهب التي تميل بطبيعتها نحو نفي الآخر من خلال إطلاق عملية الصراع بين حالتي القبول بالواقع أو رفضه بشكل مطلق، ومن ثم الانجرار في صياغة المدح أو الذم ألأخلاقيين بكل حرية لما هو قائم ودون أدنى حرج، والانحدار من الأعلى إلى الأسفل، فمن المؤتمر الدستوري وتجييش الشارع، ورفض نتائج دستور ٢٠٠٢ إلى المشاركة، ثم الصعود والهبوط إلى (… ).
وبعدما أسدل الستار على تلك المرحلة التاريخية التي بدأت منذ عام 2000، وفشل القوى الوطنية في قراءة تاريخية مسؤولة لاستحقاقات تلك المرحلة، اخذ البعض يفقد قدراته وإمكانياته للتفاعل مع المتغيرات الجديدة، لذا بدأ يبحث في علاقاته الشخصية، ومن خلالها أخذ يوجه سهامه نحو رفاقه بكل أسف.
إن إرجاع المعاناة التاريخية للآخرين من الأفراد أو موتهم الطبيعي، لأفعال أفراد بذاتهم ما هو إلا تراكم لأحقاد سابقة تعززها ثقافة الكراهية دون مراعاة لأي بعد رفاقي في العلاقات الإنسانية التاريخية، الأمر الذي ينزع الأخلاق عن صاحبه، كما ينزع عنه صفة المثقف اليساري الذي يميل دائماً نحو التحليل العلمي للعلاقات وللمتغيرات والتحولات التاريخية، وللصراع بين مصالح القوى الاجتماعية، التي تجعل انحياز هذا الرفيق أو ذاك الشخص نحو مواقع أخرى حالة طبيعية في المصالح الفئوية، وبالتالي من الخطأ قولبة الأفراد في دائرة الصراعات والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية دونما تغيير أو تحول، فمن الطبيعي أن تبرز حالات وتحولات انتهازية في سلوك وممارسات الكثيرين من مناضلي الأمس، وأمام هذه الإشكالية يحتم علينا أن نجعل كتاباتنا التاريخية أكثر تجردا وأكثر مصداقية، حتى لا تتحول هذه الجماعة اليسارية ” الديمقراطيين ” إلى فئة من اليقينيين، الذين يملك كل فرد منهم الحقيقة كاملة حسب تصوره، بحيث يبدو ادعاؤهم بالديمقراطية وبالمذهب المادي ” العلمي ” ليس جديرا بالاحترام أو التصديق.
لقد أوصلتنا تلك الكتابات إلى هذا المستوى من الانحدار، عندما أصبح كل عابر سبيل، أو متطفل على التاريخ السياسي البحريني يلوك في مجالس المحرق، وأندية ومقرات الجمعيات في المنامة وسائر أنحاء البحرين ما يكتب عن رموز هذا التيار الوطني الديمقراطي ” اليسار” من تشويه وتدمير لقيمهم وأخلاقهم، وكأن الذين ماتوا بالسرطان أو غيره كان نتيجة لسلوك أو أخطاء البعض، إلى الحد الذي شمل هذه التشويه والطعن في جميع الرموز التاريخية لهذا التيار، هؤلاء الذين كانوا يصارعون أقسى وأمر وأحلك ظروف الحياة، ولكنهم لم يتخلوا إطلاقاً عن بعضهم البعض.
عندما طلب مني الرد الجماعي على بعض المقالات لرفيقنا الذي لم يستثنِ أحدا رغم احترامي الشديد له ولتاريخه النضالي رفضت ذلك، معتبرا تلك الكتابات ردود أفعال تجعل صاحبها يستنبط بعض الثغرات في العلاقات الداخلية الخاصة بمحيطه التاريخي ليجعلها مادة إعلامية لتشويه رفاقه، ولأن هذه الكتابات في غالبها تجانب الحالة العامة لبعض التيارات السياسية الأخرى، خارج محيط التيار الديمقراطي ” اليسار” التاريخي، الذي أصابه التشويه والتراجع والعجز عن إنتاج الجديد، وهي حالة قد تشجع البعض للطعن في البعض الآخر كنوع من الإثارة التي يتقبلها بعض الصحفيين كمادة ترويجية بغض النظر عن آثارها المدمرة على العمل السياسي برمته، بعد هذه المقدمة أصبح لزاماً علينا أن نبين بعض الحقائق التي عولجت بطريقة استعراضية مشوهة، وسوف أبدؤها بوضع وظروف المناضل: ” علي عبدالله مدان ” في الخارج.
كان مدان من مناضلي جبهة التحرير الوطني البحرانية الأوائل، وقد عرفته منذ السنوات المبكرة لحياته، عندما كان يعمل مع والدي في البناء، ثم توالت الأحداث وقسى عليه الزمن بعد اعتقاله عام 1957 لمدة شهرين، واعتقاله مرة أخرى عام 1960 مع أخيه حسن، والحكم عليه بالسجن خمس سنوات مع الأعمال الشاقة، وثلاث سنوات لأخيه حسن، وقد أثارت هذه الأحكام الرأي العام في بريطانيا عندما تناولت الصحف البريطانية حينها موضوع عدم عدالة تلك الأحكام، وبعد انتهاء سنوات سجنه تم نفيه إلى إيران، وقد سبق نفي أخيه حسن، ولكنه عاد متنقلاً بين قطر والشارقة ودبي، وفى عام 1978 عاد إلى إيران على اثر الثورة الإيرانية، ولكنه بعد ما يقارب العامين غادر إيران إلى الإمارات حتى صيف عام 1986 عندما التحق برفاقه في دمشق.
لقد كنا على علاقة إنسانية راقية، حيث كان يقوم بين حين وآخر بزيارتنا في تلك القرية بنواحي السيدة زينب بريف دمشق، ويقضي أياماً معنا، لم أجده إطلاقاً منذ قدومه من سوريا أن اشتكى رفاقه، وكان شديد التواضع والبساطة إلى درجة الطفولة لرجل كان يشع نضالاً وثقافة وإخلاصاً لمبادئه وقيمه، فهل يجوز القول انه غادر منفاه في دمشق إلى بلجيكا دون أن يملك خمسين دولارا في جيبه، وحتى لا تغيب الحقيقة من الضروري أن أبين كيف غادر المناضل علي عبدالله مدان دمشق إلى بلجيكا باعتباري أحد الأشخاص الذين قاموا بترتيب إجراءات سفره إلى أوروبا.
لقد عقدنا اجتماعاً لبعض شخصيات لجنة التنسيق، وكان ذلك صباح يوم الاثنين 29/5/1993 في بيت ” أبو قيس ” بمنطقة صحنايا بريف دمشق، وتباحثنا في إمكانية ترتيب اللجوء السياسي لبعض من رفاقنا، من خلال تقديم الطلبات للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين للأمم المتحدة، إضافة لمعالجة الحالة المستعجلة لرفيقنا مدان بسبب المرض، لذا تم الاتفاق على ترتيب السفر واللجوء السياسي لزميلنا علي مدان الذي كان يعاني من سرطان البنكرياس، والتهابات المعدة، علماً أنه قد أرسل من قبل زملائه في جبهة التحرير إلى موسكو للعلاج، وهناك أجريت له عملية جراحية عاجلة، بقي فيها حوالي ٥ شهور فترة نقاهة ولكن دون جدوى، فقد اشتد عليه المرض، لذا كان من الضروري الإسراع في إجراءات سفره إلى أوروبا، ولتحقيق رغبته وترتيب سفره قمت بناء على تكليف من بعض الإخوة في لجنة التنسيق بإجراء الاتصالات لتأمين هذا السفر، فأجريت الاتصال بالسكرتير العام للاتحاد العالمي للنقابات الأخ ” أديب ميرو” لإبلاغه بقدوم زميلنا علي مدان إلى وارسو في بولندا، كذلك اتصلت بالأخ عزالدين ناصر رئيس اتحاد عمال سوريا، لتسهيل إجراءات خروجه من دمشق إلى وارسو، بالمقابل أجرينا الاتصال بالزميل هاني الريس للسفر من الدنمارك إلى وارسو ليكون في استقباله مع وفد من الاتحاد العالمي للنقابات والمجلس المركزي للنقابات البولونية، وترتيب كل إجراءات سكنه وإقامته المؤقتة في وارسو، ومن جانبهم كان زملاؤه في لجنة التنسيق يجرون اتصالاتهم بعدد من الأحزاب والشخصيات اليسارية في ألمانيا وبلجيكا لاستقباله، والترتيبات الأولية للجوء السياسي، وقد مكث في ضيافة الاتحاد العالمي للنقابات، والمجلس المركزي للنقابات البولونية مدة عشرة أيام، ولأنه لم يملك تأشيرة دخول لاجتياز الأراضي الألمانية، قام رفيقه هاني الريس بمرافقته مشياً على الأقدام أحياناً حتى اجتياز الحدود ودخول ألمانيا، حيث كان في استقبالهم بعض من رفاقهم الشيوعيين الإيرانيين، الذين قد رتبوا بدورهم الإجراءات الطبيعية لسفره إلى بلجيكا بواسطة القطار، وقضوا أياما في ضيافتهم إلى أن استكملت جميع إجراءات حق اللجوء السياسي في بلجيكا.
لم يسعد كثيرا في منفاه الجديد عندما وافاه الأجل في صبيحة يوم الاثنين 27/ ١ / 1995، مسجلاً قصة كفاح مريرة، وبدوره قام هاني الريس بواجبه في المشاركة بعملية تشييعه ودفنه، وفى اليوم نفسه أصدرت لجنة التنسيق بيان نعي المناضل علي عبدالله مدان جاء فيه: ” تنعى لجنة التنسيق بين الجبهتين احد الرواد الأوائل في جبهة التحرير الوطني البحرانية المناضل الصلب الرفيق على عبدالله مدان”، بيان النعي هذا لا يزال ثابتاً للتاريخ في صحيفة الأمل العدد 34 يناير 1995 ليكون شاهدا على حجم العلاقات الإنسانية بين أولئك الذين عاشوا في المنفى.
هذا المناضل الذي كان يبتسم وهو يتألم، ويبتسم للحياة وهو يستقبل الموت كما كان ” أبو قيس ” الذي كنت أواسيه في لحظات كان يصارع من أجل الحياة وهو مريض، ولكنه كان يعشق الحياة ويبتسم لها، فبالرغم من شدة مرضه عندما كنا في المنافي لم يقف قلمه عن العطاء، وهكذا كان النعيمي الذي رافقته ثلاثين عاماً تحت سقف واحد، ولم نختلف كما يحلو لبعض الانتهازيين ترويجه، لذا أصبح ضرورياً أن أبين لاحقاً حقيقة هذا الخلاف الشخصي المزعوم.
إن هؤلاء رموز شامخة للحياة، وعبر للأجيال، كنا نتمنى أن لا يحط من قيمها وقدرها ونضالاتها، وأن لا يستغل بعضهم للترويج الإعلامي، كالقول إن مدان قد سافر ولم يحمل في جيبه خمسين دولارا، وجعل معاناتهم مادة خلافية يشوه من خلالها أشخاص بما يغاير الحقيقة، بدلاً من تقدير تضحياتهم.
أتمنى أن يتاح لي المجال لأسجل حقيقة أخرى، عن عزيز ماشاء الله، وعن حميد عواجي، وغيرهم قبل أن تشوه الحقائق.
صحيفة الايام
18 سبتمبر 2008