ليس حدث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة بالحدث العادي الذي يمكن أن تلخصهُ رواية أو فرضية واحدة، فهو جملةُ أحداث مركبة متداخلة، وهو صراع قوى متباينة، ولا يمكن أن يكون نتاج مؤامرة محبوكة قامت بها القاعدة، وشاركت بها الإدارة الأمريكية من موقع مختلف، ليس هو بالضرورة المشاركة المباشرة، كأن يقول أسامة بن لادن لبوش (سوف نقوم بعمليتنا العسكرية في أوائل سبتمبر) ويقول له الآخر (على بركة الله!). لا يوجد في عمليات التاريخ مثل هذا التبسيط، فهاتان الإرادتان، القاعدة وقيادة بوش، متناقضتان، لكن هذا لا يمنع أن تلتقيا كلٌ من موقعهِ في فعل مشترك! فقد مثلت قيادة بوش جماعة المحافظين الجدد التي أرادت توصيل السيطرة الأمريكية على العالم إلى ذروة جديدة، ووردت في كتبها حسب كتاب جديد صادر ومترجم عن أحداث سبتمبر عبارة (إننا بحاجة إلى برل هاربر أخرى)، وبرل هاربر هو الموقع الذي ضربتهُ اليابان في الحرب العالمية الثانية، وكان ذريعة الإدارة الأمريكية وقتذاك للدخول في الحرب واستثمارها لمزيد من النفوذ والمستعمرات! ومن جهةٍ أخرى فقد كان تنظيم القاعدة الذي وُلد قبل سنوات قليلة من رافدين هما تنظيم الجهاد بقيادة الظواهري، وهو تنظيم ذو خبرة قتالية وتقنية كبيرة في تنظيم الاغتيالات، التي جربها في بعض الزعماء المصريين ونجح أغلبها، ثم هناك أسامة بن لادن وأمواله وحشد من الشباب المتدين المتعصب التابع له، والمتنامي في منطقة بدوية مليئة بشعارات الماضي، فقام هذا التنظيمُ الوليد وهو القاعدة بعمليات عسكرية كبيرة أهلته لكي يتوجه إلى العملية الكبرى، وهي ضرب السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا، ثم ضرب المدمرة كول في بحر اليمن، والعديد من العمليات الصغيرة. ومن هنا فأن يكون هذا التنظيم بعيداً عن عيون وأصابع المخابرات الأمريكية يغدو شيئاً مستحيلاً. كذلك كان حكم طالبان في أفغانستان هو اللقيط المشترك لأبوين معروفين: المخابرات الأمريكية والباكستانية. ولا يُعقل بعد كل هذه الأحداث الجسام والصناعة المخابراتية لجماعات الجهاد ضد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان أن تكون جماعة بن لادن والظواهري خارج المجسات الأمريكية والأيدي الأمريكية! لا بد أن الإدارة الأمريكية وبضعة أفراد منها على الأخص عرفتْ هذه المؤامرة ليس بتفاصيل كلية، ولكن ببعضِ الخطوط العريضة لها، ثم تركت العمليةَ تمضي وتقوم باستثمارها. إن هذه المعرفة لا يمكن الحصول على أدلة جازمة لها ولو كان ذلك كذلك لما سكتت القوى الأمريكية المناوئة للإدارة ولا الصحافة، ولكن ذلك يبدو من ظاهرات كبيرة حدثت أثناء الضربة العنيفة طرحها الكتاب المذكور. انها وقائع مثل أن تحدث عمليات تدريب على طائرات من قبل شباب القاعدة في أمريكا نفسها. وأن تخرج الطائرات المُختطفة الأربع عن مساراتها لمدة طويلة من دون أن تحلق فوقها طائرات الجيش الأمريكي وتأمر بإنزالها ثم تضربها إذا رفضت العودة إلى مساراتها أو النزول على الأرض. وهذا التحليق الدفاعي ينطلق من أكثر من عشرين موقعا عسكريا أمريكيا منتشرة على طول الخريطة، وهي لا تـُعطي الطائرات المـُختِرقة للمجال الجوي الأمريكي والمبتعدة عن مساراتها سوى عشر دقائق من هذا الخرق وإلا تحطمت. هذا ما فسرته لجان التحقيق بـ (الإهمال الفظيع)! عشر دقائق فقط، في حين جرت عدة مكالمات من بعض الطائرات المخطوفة وسارت الطائرتان الضاربتان لمركز التجارة في نيويورك مسافة طويلة، في حين ان الطائرة التي ضربت مبنى البنتاجون ضربته بشكل طفيف، واختفت أجزاؤها بعد العملية. أسئلة كثيرة وعلامات استفهام كبرى، ولكن القريب من العقل بأن الإدارة الأمريكية اهتبلت هذه الفرصة ووظفتها وهي في موقع المدافع عن نفسه، والمهمل بعض الأهمال والمقصر بعض التقصير، ولكن غير المتآمر وغير الضالع في مثل هذه الجريمة النكراء. لقد كانت الإدارات الأمريكية والجمهورية خاصة قد تشابكت علاقاتها بشركات السلاح والنفط، وهو ما أُطلق عليه في الأدبيات السياسية بالمجمع العسكري – الصناعي، الذي كان لا يمكن أن يعيش عاطلاً عن العمل وإنتاج الأسلحة بعد انتهاء الحرب الباردة، وأصبح متوتر الأعصاب من هذه البطالة مثل ضباط التعذيب بعد تلاشي حكومات الاستبداد، فكان أن رأى جماعات الجهاد الارهابية ورأى عملياتها العنيفة، وكانت هناك علاقات واسعة مع هذه التنظيمات ورجالاتها في أفغانستان وكان الكثير من الخيوط فيها تنبع من واشنطن نفسها، التي دربت هؤلاء على أحدث الأسلحة وأعطتهم أقوى التقنيات، مثل أن تـُطلق جماعة من المجانين من المستشفى بعد إعطائهم كمية من المتفجرات. وكانت هناك وقائع أكثر غرابة فعطا قائد غزوة نيويورك تسلم مبالغ كبيرة من رئيس المخابرات الباكستانية، وضابط كبير من المخابرات الأمريكية زار بن لادن قبل فترة من الأحداث وهو يجري عملية في دولة الإمارات العربية المتحدة! لقد استفاد المجمع العسكري استفادةً هائلة من هذه الضربة، ونشّط أعمالَهُ كما لم ينشطها من قبل وتوسعت السيطرةُ الأمريكية على العالم كما لم يحلم بها المحافظون الجدد. ليس بعد هذا كله أن نكون ساذجين ونقول إن (نظرية المؤامرة) كلها هوس شرقي لا أصل علمي له. فالمؤامرات موجودة دائماً في الحياة السياسية، ولكنها ليست كتآمر زمرة روما على قيصر، بل صارت أكثر تعقيداً وتركيباً وتداخلاً، وصارت خبثاً تقنياً وشراكاً تـُصنع من عيون ومتدخلين ومن اختلاط التنظيمات والمناضلين والارهابيين بالمخبرين ومن دول متمكنة وذات مستويات فعل مركبة.
صحيفة اخبار الخليج
18 سبتمبر 2008