على طول الوطن العربي وعرضه تحتدمُ المعارك بين الإقطاعين السياسي والديني، بعد ضرب المرحلتين الليبرالية والوطنية السابقتين، بأشكال من الصراع غريبة ومتداخلة. يظهر الإقطاعُ السياسي نفسَه باعتباره ممثل الوطنية، وكون (الديني) متخلفا ومذهبيا وطائفيا وعاجزا عن اللحاق به في سدة الوطنية النبيلة. وعلى العكس يظهر (الديني) أن (السياسي) فاسدٌ وأضاعَ ثروة الوطن على بذخه وجماعته. إذا استطاع الديني أن يلتهم قطعةً من أرض الوطن الغالية كما هي الحال في غزة فإنه سوف يلتهمها، وسوف تتصاعد سيطرته من الاستيلاء على المقارّ الأمنية والحزبية حتى التحكم في وسائل النشر والإعلام، واقتحام الفضائيات. وإذا استطاع (السياسي) أن يقبض على السلطة من حديد فإن (الديني) سيجد نفسه خلف القضبان، وهو الذي سيشكل جبهات مناوئة في الخارج، ويظهر نفسه بأنه المدافع الأوحد عن تماسك الوطن، فما بعده خراب واضطراب.
ولكن(السياسي) يتعدد لا تعدداً ديمقراطياً بل تعدد عصابات وقبضايات كما هو الحال في لبنان، حيث يتجاور هناك(السياسي) و(الديني)، مثل وجهي العملة. في اليمن: الحوثيون والحزب الحاكم، في مصر الحزب الحاكم والاخوان في العراق الجماعات الحاكمة والقاعدة، في الجزائر الخ .. الخ… كذلك فإن (الدين) يتعدد لا تعدد التسامح بل تعدد التماسيح، والكل يريد التهام الفريسة الوطنية. إلى متى تستمر هذه الحال المضنية المتعبة النازفة في الجسد العربي؟ لا أحد يعرف ولا شك أن الإقطاعين سوف يتسنزفان نفسيهما في حرب طويلة لا أحد يعلم نهايتها، ولا يبدو أن ثمة صباحاً في ليلها، وهي حربٌ تتفاقم وتنتقل من بلد إلى بلد، ومن منطقة في البلد إلى مناطق أخرى. هذه الحرب الاستزافية المعتمدة على ظروف اجتماعية صعبة، وبنى غير وطنية وغير متسقة في الخدمات، وشعوب مقسمة، قممُها تعيش عيشة الأباطرة وقواعدها في الحضيض، ورساميلها هاربة إلى الخارج إلا ما يسمح بالتداول وإخراج الفوائض، لن تتوقف رغم كل المشاريع والمؤامرات الكبيرة التي تعقد بين طرفي النزاع، أو رغم إسكات طرف لطرف آخر، أو رغم الهدنات المؤقتة. إن هذا الصراع غير الحضاري، غير المفيد، يؤدي إلى مزيد من الاستنزاف الاقتصادي، وهروب الرساميل، عبر تفاقم آلة العنف والعسكر، وتشريد المواطنين من أماكن النزاع، وامتلاء السجون، والهروب إلى البلدان الأجنبية. كما أن التراكم الديمقراطي الثقافي في كل بلد صار مستحيلاً، فأغلبية الشعوب لا تقرأ، وإذا توجهت لوسيلة إعلامية تكون أداة لضخ سياسة الصراع نفسها، أو تكون ثقافة مسلية مخدرة، وتكثر صنوف المخدرات. إذاً مصير الوطن العربي مصير بائس خلال هذه السنوات، فلا قطر خارج الصراع، والانقاذ يأتي من الغرب ومشروعاته التي تستفيد من الصراع، وفي هذه الأثناء يهرب أولو الأمر الأموالَ لمناطق بعيدة ويخزنونها في الغرب الحامي الأوحد، والشعوبُ بحاجة إلى شيء منها فتزداد مطالبتها وتوجهها نحو (السياسي) إذا عطف عليها بعض الشيء وأعطاها من كرمه لقمة، أو إلى (الديني) إذا دافع عنها صارخاً واطلق النار. وفي هذه الأثناء تستفيدُ فئاتٌ قليلة من الصراع بين الجانبين، فالذي يستفيد من (السياسي) يضخُ المديح ويصوره بأنه الحل الوحيد الأمثل، والمستفيد من (الديني) يصرخ له مالئا جيبه من خيره، وهذه الفئات هي الأخطر لأنها تزيد حدة الصراع، وتزيد الهوة بين الفريقين الشرسين المتقاتلين على جسد الأوطان والخيرات.
صحيفة اخبار الخليج
17 سبتمبر 2008