المنشور

روسيا والعرب بعد حرب القوقاز الأخيرة


ترافق الانتصارُ العسكري الروسي الحاسم والسريع في الحرب الأخيرة في القوقاز ، على القاعدة الأمريكية الجديدة في بطن آسيا (جيورجيا)، مع حربٍ أخرى على مختلف الصّعُد السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية، وأتت بضعة أكُلها السريعة ، تجسّدت في مد الجسور بين روسيا ،  ليس مع محيطها الجغرافيّ الأمنيّ فحسب ، بل تعدى مجالها الحيوي لمناطق عديدة من العالم ، منها الشرق الأوسط  والمنطقة العربية وقلب آسيا وتخومها حتى وصلت الأنظمة الديمقراطية الشعبية/الشعبوية الجديدة في أمريكا اللاتينية .. ومن هنا يجب أن  ندرك معنى اعتراف نيكاراغوا بالدولتين المستقلتين الجديدتين ؛ أبخازيا  وأوسيتيا الجنوبية ( الاعترافات سوف تتلاحق قريبا حتى من قِبَل بعض دول الشرق الأوسط ) وجرأة بوليفيا من طرد السفير الأمريكي وما تلا ذلك من نفس الإجراء من قبل فنزويلا ، التي تحولت إلى الحليف الروسي الأول بقدرة قادر ، متخطية كوبا وغيرها ..  مما يعنى أن العودة الروسية للساحة الدولية، كقطبٍ ثانٍ، قد بدأت.. وأن العالم يقف الآن على عتبة مرحلة جديدة من منظومة جديدة آخذة في التشكل ، تتأرجح لبعض الوقت حتى تستقر في نهاية المطاف ، في تشييد واقع موضوعي جديد سوف يتحكم في العلاقات الدولية ، التي ستخضع لمنظومة القطبية المتعددة ، منهياً بذلك مرحلة نظام وحيد القطب الأشبه بوحيد القرن الأمريكي الهائج !    
 
 
يعتبر بعض المحللين السياسيين أن العودة الروسية المرتقبة قد تأخرت بعض الشيء،  حيث بدت مؤشرات العودة للتوازن الدولي ماسة، في السنوات القليلة الماضية، الأمر الذي سيصب بلا شك في مصلحة الدول الأضعف، الراضخة تحت وطأة الهيمنة الأحادية.  بمعنى أن هناك مصلحة أكيدة ومتبادلة لدفع العالم نحو مرحلة تعدد الأقطاب، بعد التفرد الأمريكي غير المسبوق في التاريخ للسيطرة على العالم. ولعل المنطقة العربية التي تقلص فيها النفوذ الروسي بدرجة كبيرة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وسقوط المنظومة القطبية المزدوجة، من الممكن أن تستعيد عافيتها، إن أحسن العرب الاستفادة من عودة القوة الروسية والتعامل العقلاني مع المستجدات الجديدة ، وخاصة أن العرب كانوا الضحية الأولي لتآكل المنظومة الثنائية السابقة ، وهيمنة القطب الواحد لفترة اقتربت من عقدين من الزمان .  والسؤال الذي يدور في بال الساسة والسياسيين ورجل الشارع العادي، على السواء،  في العالم العربي هو مدى إمكانية استفادة العرب من الوضع الجديد الآخذ في التبلور؟!
 
 
فالوشائج التاريخية /الدينية/ الثقافية عديدة بين الروس والدول العربية والإسلامية.. بجانب أن المنطقة العربية والشرق- أوسطية ( العراق وإيران خاصة) هي مكملة من الناحيتين ؛ الجيو- إستراتيجية   والجيو- سياسية  لمرتفعات القوقاز ، كونها تقع في قلب مفترق الطرق الدولية وجاثمة على خزانٍ نفطيٍ هائل . لذلك لابد أن يدرك المشرق العربي إمكانياته ودوره المرتقب والعمل على الاستفادة القصوى من هدية الطبيعة هذه له ،  على أن يشكل الجانب الاقتصادي/ الاستثماري الموقع الأهم فيما يتعلق بالتعاون العربي الروسي من الجانب السياسي/العسكري (على أهميته)، بحيث يستثمر العرب فوائضهم المالية على قدم وساق مع الدول الغربية التقليدية والدول الشرقية الجديدة،  وخاصة روسيا والصين وبقية دول معاهدة شنغهاي .. ولكن في هذه العجالة سنوجز مسالة الجانب السياسي المباشر للتأثير المتبادل بين العرب والروس على أن نرجع في فرصة لاحقة للخوض في الإمكانيات الكامنة للمصالح الاقتصادية المتبادلة المنافع بين الطرفين .
 
 
 لقد انفتح باب  كبير للعرب الآن !.. فهل  يخرج العرب من سياسة وضع بيضهم كلها في السلة الاستثمارية الأساس عند الغرب الأمريكي ويحاولون فك الارتباط العضوي هذا ، ويعيدون ترتيب حساباتهم الإستراتيجية  ويبرحون وضعية الماء الآسن الذين هم فيه ؟!   لماذا لا ينظر العرب إلى سياسات دول قريبة لهم كتركيا(حليفة أمريكا وعضو الناتو)  والهند  وغيرهما ؟!  وحتى إسرائيل ، التي وقفت مع  جيورجيا وسلحتها في اعتدائها الأخير ، فإنها  تعيد الآن حساباتها ولا تريد الإساءة لعلاقاتها مع روسيا.  
 
 
 
مما لاشك فيه من أن صورة روسيا الجديدة  قد تألقت إلى حد  كبير في وجدان وأذهان العرب عموما ورجل الشارع خاصة ، كون أن الغطرسة والهيبة والنفوذ والهيمنة الأمريكية  قد أصابها ضعف بيّن في مناطق عديدة من العالم وخاصة المنطقة العربية والشرق أوسطية وشرق المتوسط  تحديدا . حتى لو بدت أمريكا أنها مازالت الأقوى على الصعيد التكنولوجي / الاقتصادي / العسكري.. وان كنا غير متأكدين تماما فيما يتعلق بالتوازن العسكري الاستراتيجي الحقيقي ، المتعلق بالصواريخ الإستراتيجية ، العابرة القارات ، التي يتكلم عنها الروس الآن من أنهم يسبقون الأمريكان لعقد أو عقدين من الزمن حسب التصريح الأخير  لمسؤول شؤون الصواريخ الإستراتيجية الروسية!
 
 
إلا أن مرحلة الضعف الأمريكي واضح للعيان (راجع مقال فوكوياما الأخير، العالم ما بعد أمريكا ، المنشورة أخيرا في صحيفة الحياة ) ، إلى درجة أن بلداً  صغيراً كبوليفيا –كما أسلفنا- قد  تجرأت للشروع في طرد السفير الأميركي من جهة، وبات ضعف منطق الساسة والنخب السياسية الأمريكية الحالية وافتقادهم الواضح من التواصل مع حركة الواقع ، الذي لا يقبلون تصديقه على أية حال ، من جهة أخرى .  من هنا  نلاحظ  أن التشنج  والعصبية وردود الفعل أضحت سيدة مواقفهم وتصريحاتهم السياسية ( راجع  تصريحات  تشيني /  كونداليزا الأخيرة وغيرهما من الصقور ). ولكن هناك بوادر ايجابية على قدوم جيل جديد من العقلانيين الأمريكان ، الذين قد يتعاملون مع المستجدات بطريقة أخرى .. تجسدت ما ندعيه هنا ، في التداولات الأخيرة في مجلسي الشيوخ والكونجرس الأمريكيين إلى  درجة أن مسؤول الأقلية البرلمانية قد فجر قنبلة في الكونجرس قبل أيام ، قائلا بملء فمه  من أن جيورجيا هي الدولة المعتدية في حرب القوقاز الأخيرة ويجب أن نقبل هذه الحقيقة الساطعة وان الروس يريدون أن يكونوا شركاؤنا في علاقات نديّة وبدل ذلك نحولهم إلى أعداء لنا !  إن آراء عقلانية كهذه باتت تُجهر بها على الملأ ، من قِبَل النخب الأمريكية الواقعية ، الأمر الذي قد يتعزز هذا التوجه الجديد ، إذا نجح  اوباما  في الوصول إلى سدة حكم البيت الأبيض (أول ملون أمريكي)، بشرط أن لا يدفع ثمن الحرب القوقازية الأخيرة ، حسب رأي رئيس الوزراء الروسي  بوتين !
 
 
لعل أهم درس – ضمن دروس عديدة- من الممكن استخلاصه من الأزمة القوقازية الحالية، تكون مفيدة لأصحاب القرار العرب، يتلخص في أن أمريكا ليست دائما بالضرورة طرفٌ مركونٌ إليه، مستعدة لنجدة حلفائها الصغار عند الملمات.. وذلك لأن مصلحتها تقتضي أن تتركهم للرياح في الأوقات العصيبة ! وها هو مثال الرئيس الجيورجي المغامر ساطع أمام الجميع ! صحيح أن أمريكا مازالت تحاول في الظاهر مساندته  ولكن يبدو الآن أنهم -  خلف الكواليس -  قد بدؤوا في البحث عن بديل له .. والشواهد عديدة على ذلك ، لو نتابع بدقة القنوات الخلفية لتصريح السياسيين الأمريكان ، أو نرى تصريحات المعارضة الجيورجية نفسها للرئيس الحالي ، الذي اعتبره الروس جثة سياسية هامدة !
 
الوقت 14 سبتمبر 2008