« لو كان الفقر رجلا لقتلته ». ومنذ خمسة عشر قرنا وسيف الفتى علي ذو الفقار يطارد الفقر ليصرعه. ولا يزال هذا هو أهم أهداف الحضارة الإنسانية جمعاء ممثلة في برنامج هيئة الأمم المتحدة، حيث يشكل الأول بين ثمانية «أهداف الألفية للتنمية» المعروفة اختصارا بـ «MDG» والتي تصبو الأمم المتحدة لبلوغها حتى عام 2015.
تحديدا، ينص الهدف الأول على أنه حتى العام 2015 يجب تخفيض نسبة الفقراء إلى النصف. العام الماضي شكل منتصف الطريق ما بين سنة تبني هذه الأهداف وسنة تحقيقها. وفي بداية يوليو من ذلك العام، 2007، أشار تقرير صادر عن الأمم المتحدة إلى «تراجع تقدم منطقة غرب آسيا نحو تحقيق هذه الأهداف»، وأن معدلات الفقر هنا تضاعفت أكثر من مرة بين عامي 1990 و2005. وهذا ما جعلها المنطقة الوحيدة في العالم النامي التي ازدادت فيها فجوة الفقر.¹
مملكة البحرين هي إحدى دول هذه المنطقة. لكن وزيرة التنمية البحرينية أصدرت الأسبوع الماضي شهادة وفاة للفقر في البحرين معلنة تحقيق أهداف الألفية قبل موعدها.
الأمر محير حقا. لقد سبق للوزيرة أن تمتعت بواقعية عالية عندما سئلت في بداية عام 2006 عما إذا كانت تستطيع القضاء على الفقر نهائيا، فأجابت: «لو كان ذلك قد حدث في أي دولة في العالم سأجعلها نموذجا احتذي به» ². باستطراد هذا المنطق نحن، إذن، لم نعد من بين بلدان «العالم الثالث»، وربما لم نعد من بين بلدان هذا العالم.
لماذا لا يستطيع المرء أن يطمئن لما يصرح به المسؤولون في بلدان العالم الثالث عادة؟ لأن هذه البلدان في تعاملها مع الأرقام الإحصائية تنقسم في الغالب إلى فئتين: الأولى.. تبالغ في الأرقام سلبا بما يخدم الحفاظ على تدفق المساعدات من الخارج أو يزيدها. الثانية.. تبالغ في هذه الأرقام إيجابا بما يخدم وضعها في مستوى عال من السمعة الدولية، وبعد ذلك فقط تحتل الإنجازات الحقيقية على الأرض المرتبة الثانية. ولعمري فإن الفئة الأولى هي «الأذكى نسبيا»، لأنها، على الأقل، تحقق فوائد ملموسة من الكذبة (البيضاء إذا شئتم).
إنه لا يكفي أن نسعى لرؤية الوجوه المبتسمة لنا من الخارج بينما عندما نستدير نرى وجوها عابسة في الداخل. ولكي لا يحدث ذلك علينا أن ننظر إلى الحقائق ونقدمها لأنفسنا وللآخرين كما هي.
إن التنوع والاختلاف بين دول العالم وحتى بين دول المنطقة الواحدة حقيقة قائمة لذلك فإنه يجب أن توضع لكل بلد معايير وطنية علمية بالنسبة لخط الفقر فيه. وفي يونيو 2007 أعد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مادة حول توطين أهداف الألفية في البحرين جاء فيها أن خط الفقر في البحرين، بحسب تقرير الألفية، يقدر بحوالي 155 دولارا للفرد في الشهر، أي 2,5 دولارات في اليوم الواحد.
وهذا يعني أن مملكة البحرين أقرب إلى الدول الصناعية من حيث مستوى خط الفقر. وبما أن هذه الدول تعتمد خط الفقر النسبي بدلا من المطلق عالميا فتبعا لقياسات خط الفقر النسبي فإن 11% من سكان البحرين يعيشون تحت خط الفقر الوطني ³.
الوقائع على الأرض تشير إلى أن أكثر من 10 آلاف أسرة بحرينية تعيش على معونات وزارة التنمية الاجتماعية. وحتى هذه الحقيقة لا تعني بوفاء الدولة لكامل التزاماتها الاجتماعية تجاه الفقراء. الجمعيات والصناديق الخيرية وبعض الوجهاء من التجار ينفقون ملايين الدنانير سنويا كمساعدات للأسر الفقيرة، ويتحدثون عن أهدافهم المعلنة في مكافحة الفقر.
وإذ تعكس هذه الحقيقة مستوى لا بأس به من التكافل الاجتماعي، إلا أنها أيضاً لا تخلو،للأسف، من إسهامها في تعميق الطابع الطائفي للعمل الخيري، كما تشكل بالنسبة للاتجاهات الفكرية السياسية الدينية فرصة لتغطية المساحة التي تغيب فيها الدولة عن التزاماتها الاجتماعية واستخدام قنوات ضخ المال بهدف توسيع نفوذها في المجتمع على حساب القوى الديمقراطية الحقيقية التي ينقصها المال.
في بداية العام 2006 تحدثت وزيرة التنمية الاجتماعية عن توجهات إيجابية لدعم وتعزيز القطاع التعاوني في الاقتصاد الوطني 4، لكننا عندما نستعرض حال عدد من المهن نرى بأن وضع قطاع كسواق سيارات الأجرة الذي يعيش عليه قرابة 1500 أسرة بحرينية لم يتمكن لحد الآن من تشكيل مؤسسته التعاونية التي ترتقي بأوضاعه المهددة وسط المزاحمة غير العادلة في «السوق المفتوحة». قس على ذلك أوضاع حرف أخرى كالصيادين.
إن تشجيع قيام القطاع التعاوني وتعزيزه يعد من بين المهام الرئيسية في برامج مكافحة الفقر. معدلات البطالة ومستويات الأجور هي الأخرى مرتبطة عضويا بمؤشرات الفقر.
وإذا كان خلل إحصاءات ما قبل الإصلاح أنها تحدد البطالة كناتج نسبة البحرينيين العاطلين إلى إجمالي العاملين بمن فيهم غير البحرينيين، فإن خلل إحصاءات ما بعد الإصلاح في أنها تأخذ بعدد المسجلين الباحثين عن عمل، كما هو الحال في الدول المتقدمة. لكن تلك الدول لا تعاني من غياب المعلومات عن القطاع غير المنظم، أو ما يسمى بالمساحة المظلمة في الاقتصاد الوطني، ومن أعداد الباحثين عن عمل في أسواق العمل الخارجية. وكذلك الحال بالنسبة للأجور.
ففي حين يجري الحديث عن 300 دينار كحد أدنى واقع الأجور لا يزال دون ذلك بالنسبة للكثيرين رغم ما تحقق من تقدم في بعض مستويات الأجور. وهذا التقدم نسبي قياسا بارتفاع الأجور في الدول الخليجية الشقيقة، ومبهم في ظل غياب معطيات صريحة عن واقع التضخم. ففي حين تعترف البلدان المجاورة بأن معدلات التضخم فيها لم تتجاوز رقم الخانتين فقط، بل ودخلت مراحل مرتفعة من الـ «teen»، فإن إحصاءاتنا لا تزال تقول بأرقام متواضعة من خانة واحدة.
وفي بداية العام الماضي جرى الحديث عن العمل على تشكيل «بنك الفقراء» بالتعاون مع مؤسسة جرامين، وبينما الناس بانتظار هذا البنك نفاجأ بأن الغرض منه قد تحقق.
بكلمة، إن إعلان شهادة وفاة الفقر قد تنقلب إلى تستر يحميه من السيف الذي يطارده، ليطارد الفقر الفقير.
[1]www.un.org/millenniumgoals ,
[2]http://www.amanjordan.org/a-news/wmview.php?ArtID=5309
[3] أديب نعنمة، توطين أهداف الأمم المتحدة . مثال البحرين. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يونية 2007
[4] أنظر في ڤلك http://www.amanjordan.org/a-news/wmview.php?ArtID=5309
صحيفة الوقت
15 سبتمبر 2008