يبدو النهار الرمضاني من الصوم في هذه الأيام متعبا، خاصة لدى الناس الذين يعتقدون، أو يتوهمون أن الصيام والشهر الفضيل، يصبح أكثر بركة كلما كشروا بوجوههم وعبسوا بجفونهم وحواجبهم، وكأنهم يبعثون برسائل للناس عن أن الصوم عبادة وسلوكيات نهارية منفرة بالفظاظة واحتباس المشاعر تفوق الاحتباس الحراري للصوم.
ذلك السلوك يخف ليلا لدى أولئك المستنفرين نهارا بعد مدفع الإفطار، بحجج أن الصوم مسألة متعبة ولها خصوصيات سلوكية نوزعها على العباد في النهار، عن طريق وجوهنا المكفهرة وفي الليل نزيح ذلك الماكياج الأصفر عن وجوهنا، لعل الناس ترى فينا عبادا آخرين.
لم يكن لرمضان أيام زمان هذا التوتر النهاري ولا ذلك النهج العدواني المستنفر، والاختفاء كسلا خلف حجج الصوم والأيام الرمضانية، التي يقل فيها الإنتاج ويزداد فيها التبطل والتعطل والمبررات الكثيرة للغياب نتيجة السهر المفرط. قبل أربعة عقود ويزيد، كانت الناس سلسة، سهلة، مسترخية، تصوم نهارها بهدوء وتفطر يومها بكل راحة، ثم تبدأ الجولات الرمضانية البسيطة دون مجالس نيابية ولا أعيان جدد ولا صحافة وأقلام مبتذلة بالمديح، وأصوات نشاز واستنفار يفوق استنفار حالة الطوارئ في الصومال والعراق!!
اعرفهم الآباء الذين كانوا يسترخون عند البحر في النهار وهم يستمتعون بدفء الشمس إذا ما زارنا رمضان شتاء، وإذا ما بدا في ثوب الصيف اللاهب، فالناس تستظل برحمة ربها وتستظل بالصبر والقناعة دون مكيفات، فيما راحت تلك القوى العمالية القادمة من قلب البحر تستيقظ صباحا مبكرا، لتلحق بباص بابكو، سواء كان الباص العادي أم الباص المعروف بـ “سالم خطر” بعنقه الثعباني المتميز، وقدرة السواقين المهرة بالعبور به من شوارع ضيقة، حتى ضربت الأمثال بمهارتهم وقدرتهم على امتطاء ذلك التنين، بل وردد البعض حكايات خرافية عن ذلك السائق المجنون الذي سرق “سالم خطر” ومر به من بوابة باب البحرين عندما كانت تطارده الشرطة! حمل الناس يومها حكاياتهم الرمضانية ليلا ونهارا، وهم يستحمون في ظلال البركة وساعات البركة دون تصنع أو طلبا للرحمة المفتعلة، فقد كانوا يصومون بتواضع ويصلون دون مظاهر الزينة أو التقشف الصوفي المفتعل، كما نراه في يومنا.
كانت سفرة زمان ابسط ومباركة أيضا فالرحمة لا توزع بالضرورة على بيوت الثراء والنعمة، ولا يظل فقراء الدنيا خارج بوابة الفردوس، لكون الحياة في رمضان كانت واسعة برحمتها دون مباهج إعلانية وتليفزيونية. رمضان سيظل كما هو منذ فجر الإسلام شعيرة دينية وان كانت سفرات البيوت ليست واحدة!’
ولكن ما تبدل وسيتبدل هو “الطقوسية الاجتماعية” لمسألة دينية. ربما بعد نصف قرن سيكون رمضان برائحة مختلفة، ومجالس تزدهر في أركانها ليس هواتف نقالة بالمجان وإنما أجهزة كومبيوتر صغيرة متعددة الوظائف والمهام، وسفرة سيكون فيها كل شيء حاضرا من وجبات بلاستيكية مستخرجة من مشتقات النفط، جاءت من أمريكا اللاتينية ونيوزلندا وبنغلاديش، فيما عدا الهريس اليتيم المصنوع جاهزا في تايلاند والصين والهند!!، حيث باتت النساء من ذلك الجيل ربما لا يعرفن كيف يلفظن مفردة الهريسة لكونها تسبب لهن مغصا في المعدة، كلما حاولن تذكرها، فمعدات شابات ذلك الجيل المولعات بالرجيم والتدقيق بالسعرات الحرارية (الكالورات) وغيرها منشغلات بقراءة مجلات الأزياء والمطبخ العصري، فمن الأحسن تعداد حبات السمبوسة بدون زيادة في الدهن النباتي.
رمضان الماضي والحاضر والمستقبل لن يكون واحدا ومماثلا بالتأكيد، فأشخاص من جيلي لا يرون متعة في رمضان هذا الوقت، إلا اجترار طعام بارد وذكرى مستعادة دون رائحة فرح حقيقية.
لقد اختفت المساحات من مدننا في زمن العمران، فما عدنا نسمع بأذاننا ككائنات مستنفرة بالسمع صوت المدفع القادم من أقصى نقطة، فلم تكن البيوت متعلقة لا بالتلفاز ولا بساعات الهواتف، فقد كان للمدفع والمذياع والآذان لحنا واحدا ينطلق دفعة واحدة، دون أن تربكنا حوادث السيارات ولا عدد الذين ترددوا إلى قسم الطوارئ مصابين بدوخة وغثيان وزع لونه “العجيب” على أرصفة الشوارع والأزقة، فقد شكلت العمالة البائسة جزءا من حضورها المزري عند بوابات المساجد والطرقات، وكأنها المدينة في حالة إغاثة وبلد يعيش مجاعة وزمن حرب.
مشاهد لم اعرفها وطرقات لم ألمسها وإنما هدوء واسترخاء في كل شيء، في الحركة والكلام والوداعة والبساطة والطيبة والانسجام الداخلي للإنسان بين ربه ونفسه. لم تكن أبواق وأصوات النفاق والرياء بهذا الحجم، مثلما لم تكن أصباغ التمثيل تستنفذ من المحلات، فقد كان الخباز يعرف زبائنه في الحي ولا يحتاج احد للترشيح والانتخاب، ولا بطاقة دعوة للدخول لطاولات المطاعم الفاخرة ليلا لجمعيات سياسية ثرية ونواب باتوا أثرياء جدد يزاحمون الطبقة الوسطى المتذمرة!!.
من يفطرون اليوم بقلق الأسهم، ومن ينهون صلاة التراويح بعجالة منتظرة، هم من تعلقت قلوبهم بموائد أخرى، وبأحاديث مستهلكة عن السياسة، واستعادة حوار بارد، باهت، لا يسمن ولا يغني من جوع إلا جوع ساعات الصوم، ففي شهر رمضان يصاب عقل بعض الساسة بالجمود، فيما تنتفخ بطون بعضهم فوق اللازم، إذ يكتشف اغلبهم يوم العيد أن وزنه قد زاد!، فقد فضحه قياس ثوبه عند بطنه فيصرخ مستنكرا “والله عجيب كنت صائما طوال الشهر!!” وقد أنهكتني مجالس البلاد، التي أينما ذهبت كنائب معني بشؤون الشعب!، يسألونني أين هو دوركم في معالجة المشاكل الفعلية؟
رمضان مبارك على نوابنا بالفطور والتراويح راجين لهم حوارا مريحا، في كل شيء إلا مسألة ممنوعة من الصرف والتصريح!
الأيام 12 سبتمبر 2008