بيتٌ صغير في البستيين، وثمة رجلٌ كهلٌ يمضي على كرسي متحرك. يضعُ سماعةً على أذنه لكي يسمع الأصوات، يطرقُ الحديدَ، يرسم بمسطرةٍ دوائرَ لآلة، لم يعملْ في دائرة أو شركة لسنوات طويلة، وليس لديه معاش تقاعدي، ويدفع من جيبه لكي يصمم تلك الآلة.
ارتعاشةُ يديه، تعبهُ، كلُ هذا يجعلك تعود بذاكرتك إلى تاريخه النضالي الطويل، وكان هذا الاختراع يلازمهُ كحلمٍ متغلغلٍ في عروقه، الآن سلمَ كلَ دمهِ وأيامه من أجل أن يتحول الحديد إلى اختراع. وأخيراً اعترفت وزارةُ الكهرباء البحرينية بأن ما اشتغل عليه الباحثُ محمد جابر الصباح هو آلةٌ مخترعة لها كل مواصفات الاختراع وأعطته شهادة رسمية بذلك بعد أن عاينها وفحصها عدةُ مهندسين في الوزارة المذكورة.
إنها قصةٌ طويلة تعبرُ عن مسيرةِ كفاحٍ مضنية، بدأتْ منذُ أن كان محمد جابر مسجوناً قبل عدة عقود في جزيرة جدة، سنة 1965، وهناك خطرت عليه الفكرةُ لأول مرة، وهي أن يحولَ الماءَ إلى طاقة كهربائية. ضحك منه رفيقهُ الراحل عبدالله المعاودة الذي كان مجاوراً في المدينة والمعتقل وقال: أتحولُ الماءَ إلى طاقة، أي حلم غريب هذا؟ وهذا ما قاله كثيرون لمحمد جابر وابتسموا مداعبين لهذا الرجل الذي كان قوياً فتياً وقتذاك.
واستمر المخترعُ المجهول يقرأ ويرسم ويطرقُ المعادنَ، ويحولُ الملاعقَ إلى أدوات تحرك السائل، ويطور آلة القياس الخشبية بثقوبٍ في داخلها لكي تتحرك وتدور في دائرة أكبر من معدل مسطرة القياس العادية، من أجل أن تغدو آلة تحويل الماء إلى طاقة كهربائية بحجمٍ أكبر.
تحولت الفكرةُ بعد سنوات إلى شيءٍ حقيقي، إلى جسم مادي فيه كل تصاميم المخطط المرسوم في الذاكرة. وأخيراً قرأ بعض الأصدقاء اعتراف الوزارة بأن ما صممه محمد جابر الصباح هو آلة ذات مواصفات جديدة في العالم وليست حلماً غامضاً تداعب هذا الكهل، فهي تقومُ بامتصاص الماء وتحريكه وإنتاج كهرباء منه، لكن هذا الامتصاص والتحريك والتشغيل، وتغيير الطاقة الميكانيكية إلى طاقة كهرباء، يتجاوز المقاييس الموجودة عالمياً، وتكون آلةً تعمل لمدة أربع وعشرين ساعة، بدلاً من الآلات التي تشتغل لعدة ساعات قليلة فقط، وتقوم بذلك بكمية أقل من السائل.
هذا النشاط الطويل والحلم العلمي الصعب تم في ظروف بالغة الصعوبة، فمحمد جابر ينتقلُ من شقةٍ إلى شقة، ويحمل كتبه وأوراقه وأدويته، ويشتغل في السياسة والنضال داخل البرلمان الوطني في سنة 1974 ثم يواصل الحلم في السجن الجديد لمدة عدة سنوات أخرى ولا يشبع الواقعُ المر من لحمه وهو لا يتخلى عن تغييره، ثم يخرج من السجن والحلم لم يخرج من عقله، ويعمل لعودة البرلمان مجدداً، ويحول بيته إلى منبر للديمقراطية لعدة سنين، والاختراع لا يزال ممسكاً بتلابيب عقله ولكنه يقترب من التصميم العلمي، من القياسات الدقيقة، من صهر المعدن، ويظهر على الحديد، ويتشكل.
كم مضى على ذلك؟ أكثر من أربعين سنة، وهي قصة مثيرة تصلح لذاكرة الأجيال والسينما. ولكن حتى في هذا العمر المديد لم يكتمل الحلم تماماً، ولا يزال ناقصاً، والرجل تبدل من الرجل النشيط والأسود الشعر، إلى كائن منحن، يجثم في كرسي، ويصعب عليه الدخول إلى هذا الكرسي المتحرك، فيجثم عليه بصعوبة، وهو يمضي إلى الحوش حيث عروسته غير المكتملة، يريدها أن تفارقه وتتحول إلى كائن يهدر بالطاقة، يمضي بسماعته في الأذن، وبأدويته وكرسيه المتحرك يتحرك، فلا الوزارة أعطتهُ شيئاً غير ورقة لا تغني ولا تسمن من صناعة، غير إشادة من بضعة سطور، فلا يتحول التصميم إلى تصميم يجري اختباره وتصنيعه، فهو فكرة صحيحة لكنها بعد لم تنتج من الماء نوراً.
ويتصل محمد جابر ببعض الهيئات العلمية في الهند لتمده بأدوات يشتريها من جيبه الخاص، وبمبالغ كبيرة خاصة في مثل ظروفه حيث يحتاج إلى النقود من أجل فاتورة الكهرباء الثقيلة، وليس من أجل أن يصنع الكهرباء الرخيصة. ويندهش الصناعُ الهنود من الفكرة ويطلبون تصميمها باستيرادها من أجل نشاطهم الخاص وتصنيعهم المجهول هناك، فلا يحصل المخترع البحريني حتى ربما على براءة اختراع.
الجهات الرسمية في البحرين تقف مكتوفة اليدين، فلا ثمة دعم مالي ليتحول الاختراع إلى شيء متحقق، ولا حتى مساعدات مادية لتقوم هي بتنفيذ الفكرة. كان لدينا مخترعون قلائل يئسوا من الأمراض الصناعية التي تتغلغل في أجسادهم بسبب التعامل مع المواد الصناعية والكيميائية، فتركوا هذه المغامرات إلى المصحات. فلا يوجد لدينا ما يُسمى ببراءة اختراع، ولا مكآفات مجزية لهؤلاء الذين يخاطرون بأعمارهم وأجسادهم من أجل إنجاز علمي صناعي من هذا القبيل، وليس ثمة معاهد تقنية ومؤسسات تتبنى مثل هذا الاختراعات وتحولها إلى سلع، وتعطي المخترع حقه. وقد واصل الأخ محمد جابر بروح فدائية هذا المشروع، وتحدى كل الصعوبات المذهلة، المرض والفقر، وعدم التشجيع واللامبالاة، وجاء إقرار وزارة الكهرباء بهذا الإنجاز تتويجاً لمسيرة مضنية، والخوف من أن تتحول الآلة الباردة الصامتة الآن إلا من طرقات هذا العجوز العنيد إلى خردة حديدية وذكرى عابرة. نتمنى أن نتجاوز الإشادة الورقية وأن تكون هناك مساعدة حكومية أو خاصة تحيلُ هذا الحلمَ الذي واكب حلم البحرين بالحرية والديمقراطية والتقنية المتقدمة إلى سلعة مصنعة تهدر بالطاقة.