إذا كان العامل السياسي قد طغى خلال الفترة الماضية على الاقتصادي في تحديد الموقف من ارتباط عملتنا الوطنية بالدولار الأميركي، فإن العامل الأخلاقي قد أدخل جديدا ليتداخل السياسي والأخلاقي في مسألة اقتصادية – مالية بحت تمس المصلحة الوطنية بعمق.
وبما أن ذلك يهم كل القطاعات والطبقات والفئات الاجتماعية فمن أجل أن يبنى الموقف على أسس علمية لنسترشد بما يطرحه علماء الاقتصاد والمؤسسات الاقتصادية الدولية حول وضع الدولار في النظام النقدي – المالي – الاقتصادي العالمي المعاصر.
كان جيف فرانكل، أستاذ جامعة هارفارد، المستشار الاقتصادي السابق للرئيس الأميركي بيل كلنتون بالاشتراك مع مينزي تشين قد نشرا في عام 2005 بحثا معمقا ومؤسسا على تشكيلة واسعة من المعطيات الإحصائية المالية الاقتصادية التاريخية، وخرجا باستنتاج يقول بأن اليورو سوف يزيح الدولار الأميركي من موقعه كعملة رئيسية عالمية في عام 2022.
لكنه ومع تسارع معدلات صرف سعر الدولار والضعف العام الذي لحق بوضعه الاستراتيجي في السنوات الأخيرة بنتيجة تنامي الدين الحكومي على الولايات المتحدة الأميركية تجاه الصين واليابان فقد تناقلت وسائل الإعلام البريطانية قبل فترة قريبة تصحيحات جيف فرانكل لتلك التنبؤات.
أصبح فرانكل يرى بأن انهيار الدولار وخسارته لوضعه كعملة احتياطية عالمية رئيسية سيحدث قبل عام 2022، وتحديدا مع حلول عام 2015.¹ ويتفق جوزيف ستيجليتس، الاقتصادي الأول في البنك الدولي والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد مع هذا الاستنتاج تماما.ففي حديث مباشر مع هيئة الإذاعة البريطانية أكد على أنه بنتيجة الارتفاع الهائل في العجز الأميركي المزدوج (عجز الميزانية وعجز الميزان التجاري الجاري) فإن مواقع الدولار بدأت في التصدع، كما أن علامات أفوله كعملة عالمية صعبة رئيسية بدت تلوح في الأفق. وحسب رأي العالمين الاقتصاديين فسيكون لتراجع الدولار في النظام الاقتصادي العالمي آثار جيوسياسية سلبية بالنسبة لأميركا، ما سيجد تعبيره في تراجع تأثيرها العالمي.
وفي هذا السياق نصح مسؤولون واقتصاديون معروفون من مؤسسات مالية دولية دول الخليج تحديدا بالتخلي عن الارتباط بالدولار، كان آخرها نصيحة صندوق النقد الدولي للسعودية، إلا أنها رفضت النصيح ²، كما أصرت البحرين على عدم التخلي عن الدولار في الأوقات الصعبة حتى بعد خسارته حوالي 35% من قيمته في السنوات الأخيرة ³ .
ما الذي يحدث من حولنا في الحقيقة؟ الأزمة الاقتصادية العالمية حقيقة واقعة اليوم. وللخروج من الوضع الناشئ يبحث الاقتصاديون عن أسباب هذه الأزمة ليس في الوضع الحالي، بل في الأمس.
لما حاول رئيس الجمهورية الفرنسية الخامسة شارل ديغول الابتعاد عن نظام برايتون- وودز والتخلص من الأوراق النقدية الأميركية التي أغرقت السوق دون مقابل مكافئ من الذهب، فإن محاولته لم تنجح. بكل بساطة تخلت أميركا في عام 1973 عن مبادلة دولاراتها بالذهب.
تم الانتقال بداية إلى تعويم سعر صرف الدولار، ومن ثم تخلت أميركا تماما عن ربطه بالاحتياطات الذهبية. والآن، فإن كميات إصدار الدولار أصبحت تتحدد بحاجات المجتمع والاقتصاد الأميركي وحده. وأصبح عدد الأوراق النقدية المطبوعة يجري بتسارع غير منطقي من وجهة نظر الاقتصاد العالمي. ففقط بين عامي 1995 و2006 تعاظمت كتلة النقد الدولارية حول العالم بمقدار 90%.
وأصبحت مطابع الدولار الأميركية تلفظ إلى الأسواق 635 مليون دولار في اليوم الواحد. ولا حاجة إلى الدهشة حين نرى أن بلدانا كثيرة، وهي تلحظ الأخطار المحدقة بالاقتصاد الأميركي راحت تخشى من أن تتحول مدخراتها بالدولار إلى مجرد أوراق.
ترى هل صحيح أن الوضع على هذا القدر من الجدية؟ هل صحيح ما يدعيه المحللون بأن حياة أميركا، دولة ومجتمعا، غارقة في الديون إلى الحد الذي يضع الاقتصاد الأميركي على مهب الريح؟ وأن الولايات المتحدة، وهي تهوي، تشد العالم المرتبط بها نحو الهاوية؟
المعطيات الإحصائية تشير إلى أن دين الدولة الأميركية الخارجي مع بداية عام 2008 قد زاد عن 16 تريليون دولار. أما إذا تحدثنا عن الدين الأميركي عموما، بما في ذلك الالتزامات المالية للشركات والأفراد، فإن هذا الدين يفوق الاقتصاد الأميركي ذاته خمس مرات تقريبا. وهذا ليس شفا الإفلاس، بل ما بعد حدوده.
ومع ذلك فإن الدولار بقي محافظا على مواقعه الأساسية في الأسواق العالمية. يهبط، لكن ببطء نسبي. ويمكن تفسير هذا ببساطة: إذا الدولار فقد قيمته فالأزمة تنتظر الاقتصاد العالمي برمته.
لكن الدولار محاط بالأخطار من كل الجهات. العامل الأول لهبوطه هو ضعف الاقتصاد الأميركي المستمر. ولا يغرن أحدا أن الناتج الإجمالي المحلي الأميركي قد نما بنسبة 3. 9% وأن نسبة البطالة قد انخفضت شيئا وأن الطلب على الاستهلاك يبقى مرتفعا.
للتبسيط يمكن تشبيه ذلك بحالة مواطن خليجي، وهو كثير إحصائيا، يركب سيارة حديثة ويقطن بيتا فاخرا وينفق ببذخ، بينما هو غارق في الدين حتى أذنيه (حسب آخر معطيات فاق متوسط نصيب البحريني من القروض الشخصية الأربعة آلاف دينار !).
أما بالنسبة لدين السكان في الولايات المتحدة حاليا فلا يوجد له مثيل في أي بلد في العالم. وبسبب تزايد الطلب على القروض فإنها تصبح أغلى. لم يعد أحد يستطيع الاقتراض بتسهيلات عامي 2002-2003 حيث كانت نسبة الفائدة عند حدود 1%، بل أنها أصبحت تفوق بكثير الفوائد على إعادة التمويل والتي رفعت إلى
5. 25%.
أمام بلدان العالم طريقتان لتفادي خطر الدولار على اقتصاداتها: إما التخلي عن الدولار كلية، وهذا يهدد بانهيار الدولار، وبالتالي تآكل احتياطات تلك الدول من الدولارات، وإما تقوية الدولار والاحتفاظ بإمكانيات التصدير إلى الولايات المتحدة. لكن الاقتصاد الأميركي ذاته لا يسمح بذلك بسبب ضعفه. الاقتصادات الكبرى تعمل على حلول مركبة في الاتجاهين معا.
أما الدول الأصغر حجما فخيارها الصحيح هو التخلص من الارتباط بالدولار، حتى مع صداقتها لأميركا، لسببين: أولا: الحد من المزيد من الخسائر واتقاء عاديات انهيار الدولار المحتمل على اقتصادها، ثانيا، أن إجراءها هذا لن يؤثر على الاقتصاد الأميركي كما لو فعلت ذلك الصين أو الهند أو أوروبا أو روسيا
1 http://www.newsland.ru/News/Detail/id/239575/
2 Gulf Times , 15 August, 2008, Saudi may ignore IMF forex reform call
3 مقابلة سمو ولي عهد البحرين مع CNN، 29.08.2008