في أحد الأفلام الأمريكية الحديثة تدور القصة حول مطرب شاب ثائر يشارك في أحداث الاحتجاجات في الستينيات ضد حرب فيتنام، ويقدمُ غناء جديداً مليئاً بالإثارة والكلمات الشعرية، رغم صغر سنه، لكنه كان متكبراً، تملأ نفسه الادعاءات. حين تمتلئ الجيوب، ويكثر الأطفال، ويتكاثر الشحم في الجسد الطائر، ويقوم الأولادُ بقصقصة أجنحة الأب المحلق في الهواء، والذي يزداد انحناءً، وتلعب الفواتير والإيجارات والأجور أدوارها في لجم الحصان الفتي، يتعقل المناضلُ المراهق، ويكتشفُ أهمية بعد النظر، ودور (الحكمة) في صناعة التاريخ. وهذه (العقلانية) أفضل من استمرار الطفولية الصاخبة عن الثورة، على اسوأ فرض، ولكنها عقلانية حامضة في مشوار العمر الزاهي.
لم يعمق المغني قراءاته، واعتمد على فتات المعرفة والشعارات الصاخبة، وأغرته المياه الفوارة بالنشوة، والأدخنة السحرية المدمرة للوعي، وبهره القصر الكبير الذي اشتراه بأموال المعجبين، ولم يزل يخلط بين تأييد الثورات والعصابات، لا يعرف أين هي الثورة الحقيقية واين هي قيادات التعفن السياسية، حتى انفض المعجبون وتراكمت القضايا وعصفت به الديون، فصار في شقة متواضعة، فراح يغني من أجل المسيح، ويدعو الناس للسير في الغيب، والصعود للسماء، وكان ينتفض على الأرض في شبابه، حتى وجد نفسه كهلاً يعيشُ في المناطق الخربة. كم مرت من موجات التغيير وكم ظهر من المناضلين ومن الداعين للثورات وكم بقي منهم؟ في زمن الشباب أو الافلاس المادي وفي فترة المراهقة حيث لا واجبات مالية، يكثر الصخب والادعاء، ولا تقدر هذه الحشود على البقاء في كلام الجهاد. تراجعات الوعي السياسي عند الكتاب والمناضلين هي تحدث لأسباب عدم القراءة والتجذر في المعرفة التحويلية للحياة، فتترافق لحظات المراهقة مع حفظ بعض الشعارات وتأييد جملة عامة من المبادئ، في حين ان تطورات المجتمع والعالم تتطلب المتابعة العميقة، واكتشاف سببيات التحول. وتلعب التيارات السياسية العربية الشمولية عادة دوراً في تكرار هذه المعلبات، فهو قد حفظ دور الاشتراكية في سحق الرأسمالية والامبريالية ولم يعد يقبل بشيء آخر، وأخذ بعض الجمل التي ظهرت في بداية القرن العشرين ليجعلها مثل الآيات المقدسة، في حين ان الرأسماليات القومية كانت هي التي تتشكل وتنمو. وتغدو ضربات الرأسماليات الغربية تستدعي قوة أخرى لم تعد موجودة، وهو كاشتراكي وبالأحرى كديني، يريد قوة ميتافيزيقية تقوم بالقضاء على الرأسمالية الهاجمة، فيتقارب مع الدينيين الذين هم أعداء للرأسمالية باللفظ وأكثر المستفيدين منها، ويلعب الذلُ القومي دوره المتنوع حيث تظهر إسرائيل كذلك، وتغدو هذه القوى المقتحمة للنسيج الديني كقوى قدرية لا تغلب إلا بمثلها، لكن البحث عن قوة عليا خارقة تهزم هذا الجبروت يحقق بمثال الدول الاستبدادية الدينية الشرقية، فهي مرتبطة بقوى غيبية كما تزعم، وهي تعادي الرأسمالية في جوانب معينة حين تقوم الرأسمالية بتفكيك سيطرة الجبروت الديني على الحكم والعاملين وعلى الثقافة والوعي، ولكن حين تتحول الرأسمالية إلى بنوك إسلامية وروابط مساندة للنظام الاستبدادي فهي تغدو رائعة. مساندة المناضل للأنظمة والحركات الاستبدادية المحافظة، هو جزءٌ من تآكله الفكري، ومن خوائه الايديولوجي، وعدم متابعته لقوى الشعب العادية في حياتها اليومية، التي لمست بوضوح اضرار هذه الدول والحركات على حياتها وقيامها بمغامرات عسكرية وسياسية خطيرة. حين تردد هذه الدول شعارات معاداة الاستعمار والرأسمالية مدغدغة الحس العاطفي الساذج للشعوب، تعرب عن فسادها السياسي وعلى نقل الثروات للعسكريين البيروقراطيين المتسلطين عليها، وهؤلاء يكرهون الديمقراطية والسلام. ولدينا كمية كبيرة من المثقفين العرب مساندي الاستبداد والمجعجعين بمعاداة الاستعمار، وهم قد تخلوا عن القراءات العميقة، وعن الحفر في الواقع العربي وتشريحه، لكون ذلك يسبب لهم مشكلات مالية كبيرة. إن فراغ الجملة الفكرية أو الأدبية من التحليل المنغرس في تعرية الواقع، هو إشارة على بدء التراجع والانسحاب، وإذا ارتبط ذلك بفساد وانتهازية فيتحول إلى جمود ومعاداة للعلوم الطبيعية والاجتماعية. إن العلوم بتركيبتها المتآزرة تحرر الطبيعة والمجتمع من استخدام الدين لأغراض سياسية انتهازية، وذاتية، والمناضل المتآكل ليست لديه قدرة على استيعابها، بل قدرته هي حفظية شعارية، تبريرية لموقفه الديني والسياسي المسبق، وهذا لا ينطبق على المفكر حتى لو كان محافظاً، فالمفكر المحافظ على طراز هيجل أو كانت، يؤسس فلسفة، وحتى لو كانت مثالية فهي عظيمة، لأن فيها الكثير من الجوانب المفيدة، بخلاف المناضل المتآكل، الذي يبرر الشمولية والمحافظة الشرقية المتخلفة، زاعماً انها النسيج الوحيد للشرقيين الذين لا يمكن أن يكونوا تحديثيين علميين، فيحكم على المسلمين بالتبعية والتخلف الأبديين. وإساءة المتآكل للدين والقومية هو أمرٌ شائع لأن من يسقط يكره أن يرى الناس واقفين صامدين، ولا يجد سوى الجعجعة بالشعارات الطائفية لكونها تحوله إلى مناضل لكن بعد أن فقد هويته الوطنية والتقدمية. إن انتقال العديد من المثقفين الذين كانوا قريبين من اليسار إلى القوى الطائفية المحافظة، يسحب معه كل تلوث هذه العملية من هجوم شخصي وادعاءات ثقافية كبرى وتوهم العملقة، لأن الحفر العلمي الذي كان يجب أن يكرس نفسه له فقده، فلا يجد سوى ترقيع ذاته المثقوبة ببالونات فاقعة الألوان. وهذه العملية تزيد الأضرار على أي بلد تقع فيه، خاصة حين يكثر الافساد، وتؤدي إلى انهيارات اجتماعية وكوارث إنسانية، فليست الكلمة أو الفكرة لعبة بل هي خيارات بشرية وأخلاقية عظيمة، يجد المرء في حساب الساعة انه إما أن يكون في جهة الشر وإما جهة الخير، أما في عالم الانحطاط أو في عالم الرفعة والشرف، وهو ما عبر عنه أسلافنا بالحساب أي بالجنة أو النار. فكيف تزعم الدين وأنت مروج للفساد والتخلف والاستبداد؟
صحيفة اخبار الخليج
8 سبتمبر 2008