منذ أن ظهرت جماعة التجديد من أقبية السجن المكلل بالمعاناة وهي محط اشتباه عند الغالبية العظمى من الجماعات السياسية الشيعية، بسبب النشأة الغامضة للجماعة في أتون السجن ودعوتها لأشياء جديدة لا تتوافق مع الجو السياسي العاطفي الساخن لدى هذه الأغلبية. ظل أصل النشأة غامضاً، لكون الجماعة لم تصدر شيئا تاريخيا بهذا الصدد، فظهرت شائعات كثيرة أغلبها يربطُ الجماعةَ بمؤامرة بهدف زعزعة الصف الشيعي المتماسك الموحد. واعتبرت هذه الشائعات أن تكوينَ جماعةٍ سياسية تزعمُ الاتصالَ بالمهدي وأنها طليعة لقدومه العظيم، هو خطة مدبرة دقيقة، ولكن ما قـُدم من قبل الرافضين لهذا التشكل لا يعدو أشياء عجائبية لا يصدقها العقل، مثل أن زعيم الجماعة كان يُظهر معجزات بالاتفاق مع إدارة السجن، لكي يرتفع في نظر اتباعه القلة وقتذاك، الذين تضاعف عددهم بعد الخروج من السجن.
وإذا كان ذلك صحيحاً على هذا الافتراض فإنه من الصعب التصديق بأن هذه الجماعة هي مؤامرة بهذه الطريقة، فقد توجهت لإنتاج الفكر وإصدار الكتب وعقد الندوات وتوفير أجواء من البحث، من دون أن تكون كل هذه الثمار المتنوعة بمثابة (مؤامرة). ولا يمكن لمشعوذ مهما كانت قدراته أن يخلق تيارا فكريا. وإذا قال معارضو جماعة التجديد: إنها مؤامرة موجهة لتفتيت الصف الشيعي فإننا لم نجد شيئاً مسيئاً للشيعة أو لغيرهم من المسلمين في هذه الأدبيات. أما إذا قيل: إنها جماعة موالية للسلطة فلماذا لا يُسمح بظهور جماعات سياسية موالية للسلطة؟ ولماذا لا تظهر جماعاتٌ أخرى محافظة معارضة؟ لكن لا توجد كذلك أدلة على موقف سياسي محدد لجماعة التجديد، فهي أقرب لجماعة فكرية تتسم بمرونة سياسية وببعد نظر ثقافي ولا تحشرُ نفسَها في زاوية، صحيح أن أطروحاتها الاجتماعية ضد الفقر والبطالة والاستغلال غير مرئية، لكن ذلك أيضاً هو موقف اجتماعي هي حرة في انتهاجه. والمهم هنا أنها تدعو إلى أفكار بالكلمة وهذا هو المميز، أما المواقف الفكرية فلها حساب مختلف. إنها تطرح الاختلاف وتجتهد في البحث وهذا لا يضر أحداً لأن القضاء على الفكرة يتم بالفكرة لا بالقبضات القوية والعصي. وتبدو الجماعات الكبيرة المعادية لجماعة التجديد في وضعها الفكري المحافظ غير راغبة في اثارة أي جدل فكري، وهي تغلق الأبواب في بحث تاريخ الأديان والأفكار، وهذا ليس من حقها، بل من واجبها إطلاق حرية البحث حتى فيما يتعلق بالمذهب الشيعي نفسه، فهو ملكٌ للمسلمين وليس فقط حكراً عليها. لكن جماعة التجديد في كتبها وأوراق بحوثها الكثيرة ومقالات أعضائها تتجنب الصراعات وتمتنع عن الإثارة كما هو الحاصل في بقية التيارات، ربما لإدراكها صعوبة مثل هذه الإثارة في وسط ديني محافظ، كما أن خطوات التجديد في الوعي الديني بحاجة إلى الحصافة وبعُد النظر والهدوء، فهذه مقدسات الناس وليست تجارة بضائع، وهو ما التزمت به الجماعة. وهي لها حق الاجتهاد والتأويل في الموروث الديني من دون أن تلزم غيرها به كذلك. ونريد من يتهم هذه الجماعة بذلك أن يضع بين أيدينا دليلاً على إساءة الجماعة لرمز من الرموز الدينية، أو تحقيرها لعبادة وسوى ذلك من الأدلة، أما الاتهامات الجزافية فهو أمر خطر. ان التركيز في لفظ (السفارة) وان الجماعة تزعم الاتصال بالمهدي عليه السلام وانها تمهد لعودته وغير هذا من الافتراضات، فلا يوجد دليل ملموس حول ذلك. لكن إذا خرجت الجماعات من أفق هذا التفكير النصوصي، ورأت ان رمزية المهدي أوسع من هذه المحدودية، وأنها رمزية خلقت ثورات فكرية وخصباً جدلياً وثقافياً كبيرين، فكم من ثائر قال ذلك، وكم من حركات في التاريخ الإسلامي الطويل نشأت على هذا التداخل بين الغيبي والواقعي، بل ان التاريخ الثقافي الشيعي نفسه مليء بمثل هذه الحركات. وفي الثقافة السنية اندلعت ثورات كبرى وتشكلت مقاومة وطنية باسم المهدي، وكل هذا بسبب هذه الرمزية المتعددة الآفاق والاحتمالات، فيجب ألا تـُؤخذ بحرفية نصوصية وبانعدام للخيال الخصب والتأويل. ومن المؤكد أن رمزية الاتصال تعني تشكيل موقف سياسي ويجد القائمون على احتكار المعنى الرمزي أنه يجب ألا ينازعهم منازعٌ في هذا الاحتكار، ثم تم تحويل الصراع مع جماعة التجديد إلى هذه الجزئية الصغيرة وتم شحن العواطف حولها، ونسيان الجوانب الثقافية الأخرى، مما يؤدي إلى تحريض البسطاء الذين لا يعرفون أن المسألة ثقافية واجتماعية كبيرة، ذات أبعاد معقدة ومركبة، فيتم التركيز في تفصيل هدم المقدس والاعتداء على حرمة الدين. وحتى لو أن جماعة التجديد توجهت لهذا الهدم المزعوم فهل تستطيع أن تفعل شيئاً؟ هل تستطيع أن تزيل حجراً واحداً من هذا الإيمان؟ بطبيعة الحال هذا غير ممكن، ولهذا ما الداعي للخوف والتناحر؟
صحيفة اخبار الخليج
7 سبتمبر 2008