يبدو ان الصراع بين الفلسطينيين على السلطة هو التناقض الأساسي بينما بات الصراع مع العدو الإسرائيلي صراعا ثانويا ومؤجلا حتى إشعار آخر، مما جعل حكومة اولمرت ومن سيأتي بعدها مرتاحة في تعاملها مع ملف القضية الفلسطينية، طالما أن هناك على الأرض سلطتين قائمتان تتنازعان على شرعية قيادة الشعب الفلسطيني، وتتصارعان حتى الدم على ابسط موقع عائلي وفصائلي في إحدى الضفتين أو القطاعين، في وقت كثيرا ما أسمعتنا قيادات الشعب الفلسطيني اسطوانة باتت مهترئة، وهو إن الدم الفلسطيني،، خط احمر،، وعليهم حاليا وبعد جولات من التصفيات والملاحقات وأنماط التعذيب والخطف وغيرها من الممارسات التي لا تضيف للقضية إلا صورة من صور التشويه لدى الإعلام والمراقب الخارجي، فنحن العرب حالتنا من حالة الشعب الفلسطيني واعتدنا على وضعه المحزن منذ زمن النكبة، بل والنكبات وآخرها نكبة النزاع المؤلم والتراجيدي في حي الشجاعية، والذي جعل من المشهد السياسي في قطاع غزة يفوق كل المشاهد المسرحية الإغريقية من التراجيديات المكتوبة والمفارقات العجيبة، فقد طغت سنة حمورابي في منهج الإخوة الفلسطينيين، فالعين بالعين والسن بالسن والبادي اظلم، فمن يخطف مني في الضفة الغربية اخطف منه في قطاع غزة ومن يقتل في غزة اقتل منه في الضفة الغربية ومن يعتقل ويقتل في غزة لا ارحمه في الضفة الغربية . بهذا المنهج القتالي الانتقامي، الفصائلي والانفعالي، ذي الطابع القبائلي الثأري يدخلنا المتنازعون في منطق لم تكن تعرفه الثورة الفلسطينية في أزمنة ما، وان كان في بعض الأحيان يطل برأسه في المخيمات اللبنانية، ولكن الظرف السابق ونتيجة لحضور قيادات رمزية قوية ومؤثرة من نوع أبو جهاد وأبو عمار وغيرهما، فان احتواء كل حالة من حالات الاقتتال الداخلي لم يكن صعبا، بل ولم تكن يومها هناك سلطة على الأرض ولا حلم لميراث الثروة والمقعد والزعامة الرسمية، بكل مخصصاتها ومستحقاتها المالية وامتيازاتها الاجتماعية والمهنية .
يوم ذاك ظل التطاحن ثقافة اقل بشاعة واحتمالا مما هو اليوم، فقد سيجت الحالة الفلسطينية نفسها في القطاعين بسيكولوجية عامة، متذمرة وشعبية كطرف ثالث لا تعجبه هذه الحالة، فيما ظلت بعض من الآلية الحزبية والعمياء للعناصر الملتزمة بالتنظيمين حماس وفتح، كوادر مسلحة وقيادات، فهي توزع تعليماتها المعلنة والسرية في الضغط على الزناد أو ارتداء الأقنعة واللثام والهجوم على خلق الله، مما افرز وضعا لا يمكن تركه بتلك الطريقة عربيا، فمن يراهنون على إسرائيل والولايات المتحدة في التدخل لفض النزاعات الداخلية الفلسطينية – الفلسطينية يتجاهل بكل بساطة نظرية الثقاب وعلبة البنزين، فكلاهما في الغابة يحملهما شخص واحد ينوي إحراق الغابة والنفاذ بجلده، لهذا نجد الغابة الفلسطينية مشتعلة باستمرار، متوترة دون مخارج، متأزمة دون معالجات جادة، متشظية دون تنازلات للصالح العام والوحدة الوطنية، بالرغم من إن شعار المتصارعين – كلاميا وبرتوكوليا وفي حظوة الوساطات العربية – بما فيها اتفاق مكة كونه في ارض مقدسة – لم يتم الالتزام به فتم سكب الدم من الطرفين بدم بارد، ويبدو أن الدم البارد عند الانفعال يتحول حارا متدفقا وكلما استطعم لذة الانتقام والقتل صار الدم باردا – بمعناه المجازي- فما عادت الإخوة والقضية كل شيء وما عاد العدو الجاثم في الأرض وفي كل مخافر ومعابر الكيان والاستيطان يعني شيئا أبدا كلما انطلقت زخات الرصاص .
ما نتج عن اقتتال حي الشجاعية ليس صدفة ولا أمرا غير محتمل، فمنطق الممارسات والنزاع والتوترات، كانت نتيجته منتظرة، ولكن ما لم يكن منتظرا حالة أبو فراس الحمداني عندما كان في وضع الخيار بين الفرار أو الردى، فلم يجد إلا أن يقول لنا،، هما أمران أحلهما مر،، لهذا حمل الفلسطينيون الفارون أنفسهم إلى حضن العدو بدلا من حضن الإخوة، فقد زاد منسوب العداء بل وزاد منسوب الدم في الحاضنة الفلسطينية، فقدم الهاربون مثالا جميلا للإعلام الإسرائيلي وللمراقبين الدوليين، عن إن إسرائيل الصدر الحنون للهاربين والحضن الدافئ للمأساة، فبدت الحضارة وثقافة الدم والقتل بين واقعين إسرائيلي وفلسطيني،، أمران أحلهما مر !!،، أمران لا يحسد عليه الإخوة في فتح وحماس، إذ صار الهروب صدمة للطرفين وكلاهما لو استيقظتا جيدا وانتبهتا جيدا للحالة، فانه يسيء لسمعة البيت الفلسطيني، بدلا من أن يضيف لهما خيلاء السطوة والقوة واستعراضهما في كلا القطاعين، من هو أقوى هناك أقوى هنا، فلا تلعبوا معي لعبتكم، هكذا تراشق الصغار بالرشاشات والكبار بالتصريحات،، فاستعذبنا،، نحن العرب بخيبتنا ونكباتنا المتتالية نكبة تلو نكبة .
بهذا الصمت وتلك المأساة المضحكة بات الوضع الفلسطيني اليوم، سواء في غزة أو في الضفة ترجمة للتمزق وعنوانا كبيرا دوليا،، للرأفة الإسرائيلية وحضارتها، في وقت كان العالم يتحدث عن انتهاك إسرائيل للأطفال الفلسطينيين في سجونهم!
صحيفة الايام
7 سبتمبر 2008