المنشور

الفرار أم الردى؟‮!‬

يبدو ان الصراع بين الفلسطينيين على السلطة هو التناقض الأساسي‮ ‬بينما بات الصراع مع العدو الإسرائيلي‮ ‬صراعا ثانويا ومؤجلا حتى إشعار آخر،‮ ‬مما جعل حكومة اولمرت ومن سيأتي‮ ‬بعدها مرتاحة في‮ ‬تعاملها مع ملف القضية الفلسطينية،‮ ‬طالما أن هناك على الأرض سلطتين قائمتان تتنازعان على شرعية قيادة الشعب الفلسطيني،‮ ‬وتتصارعان حتى الدم على ابسط موقع عائلي‮ ‬وفصائلي‮ ‬في‮ ‬إحدى الضفتين أو القطاعين،‮ ‬في‮ ‬وقت كثيرا ما أسمعتنا قيادات الشعب الفلسطيني‮ ‬اسطوانة باتت مهترئة،‮ ‬وهو إن الدم الفلسطيني،،‮ ‬خط احمر،،‮ ‬وعليهم حاليا وبعد جولات من التصفيات والملاحقات وأنماط التعذيب والخطف وغيرها من الممارسات التي‮ ‬لا تضيف للقضية إلا صورة من صور التشويه لدى الإعلام والمراقب الخارجي،‮ ‬فنحن العرب حالتنا من حالة الشعب الفلسطيني‮ ‬واعتدنا على وضعه المحزن منذ زمن النكبة،‮ ‬بل والنكبات وآخرها نكبة النزاع المؤلم والتراجيدي‮ ‬في‮ ‬حي‮ ‬الشجاعية،‮ ‬والذي‮ ‬جعل من المشهد السياسي‮ ‬في‮ ‬قطاع‮ ‬غزة‮ ‬يفوق كل المشاهد المسرحية الإغريقية من التراجيديات المكتوبة والمفارقات العجيبة،‮ ‬فقد طغت سنة حمورابي‮ ‬في‮ ‬منهج الإخوة الفلسطينيين،‮ ‬فالعين بالعين والسن بالسن والبادي‮ ‬اظلم،‮ ‬فمن‮ ‬يخطف مني‮ ‬في‮ ‬الضفة الغربية اخطف منه في‮ ‬قطاع‮ ‬غزة ومن‮ ‬يقتل في‮ ‬غزة اقتل منه في‮ ‬الضفة الغربية ومن‮ ‬يعتقل ويقتل في‮ ‬غزة لا ارحمه في‮ ‬الضفة الغربية‮ . ‬بهذا المنهج القتالي‮ ‬الانتقامي،‮ ‬الفصائلي‮ ‬والانفعالي،‮ ‬ذي‮ ‬الطابع القبائلي‮ ‬الثأري‮ ‬يدخلنا المتنازعون في‮ ‬منطق لم تكن تعرفه الثورة الفلسطينية في‮ ‬أزمنة ما،‮ ‬وان كان في‮ ‬بعض الأحيان‮ ‬يطل برأسه في‮ ‬المخيمات اللبنانية،‮ ‬ولكن الظرف السابق ونتيجة لحضور قيادات رمزية قوية ومؤثرة من نوع أبو جهاد وأبو عمار وغيرهما،‮ ‬فان احتواء كل حالة من حالات الاقتتال الداخلي‮ ‬لم‮ ‬يكن صعبا،‮ ‬بل ولم تكن‮ ‬يومها هناك سلطة على الأرض ولا حلم لميراث الثروة والمقعد والزعامة الرسمية،‮ ‬بكل مخصصاتها ومستحقاتها المالية وامتيازاتها الاجتماعية والمهنية‮ . ‬
يوم ذاك ظل التطاحن ثقافة اقل بشاعة واحتمالا مما هو اليوم،‮ ‬فقد سيجت الحالة الفلسطينية نفسها في‮ ‬القطاعين بسيكولوجية عامة،‮ ‬متذمرة وشعبية كطرف ثالث لا تعجبه هذه الحالة،‮ ‬فيما ظلت بعض من الآلية الحزبية والعمياء للعناصر الملتزمة بالتنظيمين حماس وفتح،‮ ‬كوادر مسلحة وقيادات،‮ ‬فهي‮ ‬توزع تعليماتها المعلنة والسرية في‮ ‬الضغط على الزناد أو ارتداء الأقنعة واللثام والهجوم على خلق الله،‮ ‬مما افرز وضعا لا‮ ‬يمكن تركه بتلك الطريقة عربيا،‮ ‬فمن‮ ‬يراهنون على إسرائيل والولايات المتحدة في‮ ‬التدخل لفض النزاعات الداخلية الفلسطينية‮ – ‬الفلسطينية‮ ‬يتجاهل بكل بساطة نظرية الثقاب وعلبة البنزين،‮ ‬فكلاهما في‮ ‬الغابة‮ ‬يحملهما شخص واحد‮ ‬ينوي‮ ‬إحراق الغابة والنفاذ بجلده،‮ ‬لهذا نجد الغابة الفلسطينية مشتعلة باستمرار،‮ ‬متوترة دون مخارج،‮ ‬متأزمة دون معالجات جادة،‮ ‬متشظية دون تنازلات للصالح العام والوحدة الوطنية،‮ ‬بالرغم من إن شعار المتصارعين‮ – ‬كلاميا وبرتوكوليا وفي‮ ‬حظوة الوساطات العربية‮ – ‬بما فيها اتفاق مكة كونه في‮ ‬ارض مقدسة‮ – ‬لم‮ ‬يتم الالتزام به فتم سكب الدم من الطرفين بدم بارد،‮ ‬ويبدو أن الدم البارد عند الانفعال‮ ‬يتحول حارا متدفقا وكلما استطعم لذة الانتقام والقتل صار الدم باردا‮ – ‬بمعناه المجازي‮- ‬فما عادت الإخوة والقضية كل شيء وما عاد العدو الجاثم في‮ ‬الأرض وفي‮ ‬كل مخافر ومعابر الكيان والاستيطان‮ ‬يعني‮ ‬شيئا أبدا كلما انطلقت زخات الرصاص‮ .‬
‮ ‬ما نتج عن اقتتال حي‮ ‬الشجاعية ليس صدفة ولا أمرا‮ ‬غير محتمل،‮ ‬فمنطق الممارسات والنزاع والتوترات،‮ ‬كانت نتيجته منتظرة،‮ ‬ولكن ما لم‮ ‬يكن منتظرا حالة أبو فراس الحمداني‮ ‬عندما كان في‮ ‬وضع الخيار بين الفرار أو الردى،‮ ‬فلم‮ ‬يجد إلا أن‮ ‬يقول لنا،،‮ ‬هما أمران أحلهما مر،،‮ ‬لهذا حمل الفلسطينيون الفارون أنفسهم إلى حضن العدو بدلا من حضن الإخوة،‮ ‬فقد زاد منسوب العداء بل وزاد منسوب الدم في‮ ‬الحاضنة الفلسطينية،‮ ‬فقدم الهاربون مثالا جميلا للإعلام الإسرائيلي‮ ‬وللمراقبين الدوليين،‮ ‬عن إن إسرائيل الصدر الحنون للهاربين والحضن الدافئ للمأساة،‮ ‬فبدت الحضارة وثقافة الدم والقتل بين واقعين إسرائيلي‮ ‬وفلسطيني،،‮ ‬أمران أحلهما مر‮ !!‬،،‮ ‬أمران لا‮ ‬يحسد عليه الإخوة في‮ ‬فتح وحماس،‮ ‬إذ صار الهروب صدمة للطرفين وكلاهما لو استيقظتا جيدا وانتبهتا جيدا للحالة،‮ ‬فانه‮ ‬يسيء لسمعة البيت الفلسطيني،‮ ‬بدلا من أن‮ ‬يضيف لهما خيلاء السطوة والقوة واستعراضهما في‮ ‬كلا القطاعين،‮ ‬من هو أقوى هناك أقوى هنا،‮ ‬فلا تلعبوا معي‮ ‬لعبتكم،‮ ‬هكذا تراشق الصغار بالرشاشات والكبار بالتصريحات،،‮ ‬فاستعذبنا،،‮ ‬نحن العرب بخيبتنا ونكباتنا المتتالية نكبة تلو نكبة‮ .‬
‮ ‬بهذا الصمت وتلك المأساة المضحكة بات الوضع الفلسطيني‮ ‬اليوم،‮ ‬سواء في‮ ‬غزة أو في‮ ‬الضفة ترجمة للتمزق وعنوانا كبيرا دوليا،،‮ ‬للرأفة الإسرائيلية وحضارتها،‮ ‬في‮ ‬وقت كان العالم‮ ‬يتحدث عن انتهاك إسرائيل للأطفال الفلسطينيين في‮ ‬سجونهم‮!
 
صحيفة الايام
7 سبتمبر 2008