المنشور

لكمات أطلسية روسية متبادلة توقد جمرات الحرب الباردة

بعد أن ظل الحذر والريبة مسيطران على علاقات روسيا ببلدان الحلف الأطلسي خصوصاً في الولاية الثانية للرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين التي تغطي السنوات الأربع الأخيرة، يبدو أن الطرفين صارا جاهزين للانتقال إلى مواقع احتكاك تتجاوز حالة الريبة والحذر وتجذبهما أكثر فأكثر، ورويداً رويداً، نحو آفاق الحرب الباردة الرحبة وأجوائها المهيأة على وقع تزايد نقاط تماس المصالح الوطنية المتضادة.
وحين نتحدث عن تضاد المصالح فإن حديثنا ينصرف إلى نجاح خطة الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين في استرداد كافة أصول القطاع البترولي الروسي في زمن قياسي من الشركات النفطية الغربية التي كانت حصلت عليها بسهولة وبأسعار مغرية إبان حكم الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسن، واستعادة شركات النفط والغاز الروسية لمكانتها ونفوذها سواء داخل روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق أو على الصعيد الدولي.
وإلى جانب استعادة المبادرة الاقتصادية في الداخل والسيطرة على موارد وإمدادات الطاقة، فإن إدارة الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين نجحت خلال ثمان سنوات تقريباً في إعادة بناء الجيش الروسي والترسانة العسكرية الروسية بما يشمل ذلك القوة الصاروخية الضاربة العابرة للقارات والتكتيكية، التقليدية منها والنووية، وكذلك القاذفات بعيدة المدى الحاملة للأسلحة النووية وإعادة برنامج طلعاتها الجوية الذي كان عُلق بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. كما عادت الصناعة الحربية الروسية إلى سابق عهدها فيما يتعلق بمبيعات سوق السلاح الدولية.
وفوق هذا أن روسيا التي ترك يلتسن خزينتها شبه خاوية (90 مليون دولار فقط) تحتكم اليوم على احتياطات تناهز 600 مليار دولار، توفر لاقتصادها وعملتها الوطنية وسادة مريحة للمناورة الاستثمارية التوسعية في الداخل والخارج.
وإلى ذلك أيضاً، إنه في الوقت الذي كانت روسيا تضع حداً لحقبة يلتسن الكارثية على الاقتصاد الروسي وعلى الحالة الروسية عموماً والتي امتدت لعشر سنوات (منذ انهيار الاتحاد السوفييتي حتى العام 2000) وتستهل عهد فلاديمير بوتين الذي نهض بمهمة إعادة بناء ما تم تدميره – في هذا الوقت، ويا للمفارقة العجيبة، كانت الولايات المتحدة على موعد مع حلقة جديدة من حلقات الصراع الدولي الدامي والمدمر بعد أن كانت وضعت لبناته الأولى في أفغانستان وغيرها، مبتغية، هذه المرة، صراعاً حضارياً متسعاً وممتداً لثلاثين عاماً كما قال الرئيس جورج بوش الابن في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية على واشنطن ونيويورك.
وكانت الولايات المتحدة التي وقعت في قبضة زمرة من عتاة الأصولية الأيديولوجية في الحزب الجمهوري الذين أضفوا عليه نزعاتهم المغامرة في الهيمنة والسيطرة واستخدام الحروب الاستباقية وسيلةً لتحقيق هذه الغاية – كانت هي التي دفعت بزخم التنظير لصراع الحضارات إلى أقصى مداه من قبل أن تقع هجمات سبتمبر الإرهابية وإعلان أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة ونصير الأمريكيين السابق من تورا بورا – تناغماً مع ‘رؤية’ صراع الحضارات الأمريكية – عن ‘انقسام العالم إلى فسطاطين’!
فكانت هذه ‘الرؤية’ المغامرة التي تحمس لها رهط من جماعة أمريكان انتربرايز انستيتوت المغرقة في يمينيتها ومنهم وليم كريستول وريتشارد بيرل وبول وولفويتز ودونالد هيث وغيرهم – كانت سبباً في الورطة التي أضحت عليها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق (وربما تنزلق القدم الأمريكية قريباً نحو هاوية المستنقع الباكستاني الذي يتهادى رويداً رويداً نحو المآل الأفغاني).
ومع ذلك، وعلى رغم المآزق التي أوقعت الولايات المتحدة نفسها فيها، فإنها لم تغفل عن تتبع عملية استعادة روسيا عافيتها وعودتها الجزئية إلى المسرح الدولي وارتفاع وتيرة وأشكال تعبيراتها عن طموحاتها الوطنية والعالمية.
ويبدو أن تسارع هذه العملية هو الذي قرّب الطرفين من لحظة الصدام التي لم تشأ الإدارة الأمريكية الحالية المستنزفة أصلاً جراء أسلوبها المغامر، تفويتها على رغم الفسحة الزمنية الضيقة المتبقية لها في الحكم. فكان أن تقدمت في البدء بمشروع نشر الدرع الصاروخية في كل من تشيكيا وبولندا العضوتين السابقتين في حلف وارسو والحديثتي العهد بحلف الناتو. فكان أن أثارت هذه الخطوة حفيظة روسيا التي لم يترك رئيسها آنذاك فلاديمير بوتين سانحة إلا وعبر فيها عن سخطه على هذه الخطوة التصعيدية ضد بلاده، وعن استهجانه للرواية الأمريكية المضحكة الزاعمة بأن هدف هذه الدرع الصاروخية هو حماية أوروبا من الهجمات الصاروخية الإيرانية والكورية الشمالية.
ثم أتبعت واشنطن هذه الخطوة بخطوة استفزازية أخرى منسقة بإحكام مع حلفائها الأوروبيين، وهي اتخاذ تدابير عسكرية وسياسية استباقية لإعلان استقلال كوسوفو عن صربيا من جانب واحد خرقاً للمفاوضات الجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا في إطار الأمم المتحدة لتقرير مصير الإقليم الذي ترفض روسيا فصله عن حليفتها السلافية صربيا.
فكان تفضيل الغرب خيار التصعيد الاستفزازي مع موسكو على خيار التفاوض للتوصل إلى حل وسط لهذه المشكلة الاثنية التي غذتها وفاقمتها عقلية الحرب الباردة، سبباً في إثارة غضب موسكو وشعورها باستصغار الغرب ولا مبالاته لمصالحها.
وكأن ذلك لم يكفِ، إذ عمدت العواصم الغربية، إلى إرسال رسائل إيحائية إلى تبليسي من سوء تقدير الرئيس الجورجي ساكشفيلي المتحمس بتهور للمزايدة على لعبة الاستفزاز الغربية، أن قرأها بالشكل الذي عكسه في هجمته الليلية ‘العنترية’ على أوسيتيا الجنوبية والتهمها على طريقة التهام هتلر لتشيكيا وسلوفاكيا عشية الحرب العالمية الثانية.
أما وقد بلغ السيل (الاستفزازي) الزبى، فقد تعين على روسيا أن ترد على ‘الرسالة’ الغربية ‘بأحسن منها’ .. رداً موجعاً لازالت أصداه تتردد في مقر الناتو والعواصم الغربية. فها قد أتى الرد الروسي، وإن جاء متأخراً، على خطوة الغرب بإعلان استقلال كوسوفو عن صربيا، بقرار مجلس الدوما (البرلمان) الروسي الاعتراف باستقلال كل من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ومصادقة الرئيس الروسي على هذا القرار.
بهذا يكون طرفا الأزمة: روسيا والغرب أوصلاها إلى ذروتها التي لا مناص من تأديتها لإشعال فتيل حرب باردة جديدة بينهما. وبما أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية على الأبواب (نوفمبر المقبل)، وبما أن مزايداتها مشرعة الأبواب هي الأخرى لكل من يطمع في شريحة من وليمة امتيازاتها الدسمة، فإن الوقود اللازم لإيقاد مراجلها يصبح مؤمناً سلفاً .. إلى أن ينجلي غبار المعركة الانتخابية الأمريكية.
بيد أن انتهاء المعركة الانتخابية وانتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة الأمريكية لن يكون كافياً بحد ذاته لنزع فتيل الأزمة والحرب الباردة العائدة عبر بواباتها (بوابات الأزمة إياها)، إلا إذا توصل الطرفان إلى توافق على مصالحهما المتصلة بمصادر وإمدادات الطاقة على الأقل.
 
الوطن  6 سبتمبر 2008