علينا أن نولي بعض الانتباه لخبر إحالة مجلس الوزراء في اجتماعه المنعقد فــي 24 أغسطس الماضي إلى السلطة التشريعية مشروع قانون بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
أول ملاحظة على هذا الخبر أزعم أنها جوهرية، هو أن لا أحداً يعلم حتى الآن على الأقل مضمون رأي الحكومة وملاحظاتها على المشروع، ولكن المرجو والمأمول والملح أن يكون هذا الرأي مؤيداً وداعماً لقيام الهيئة حيث لا سبيل لإنجاح مشروعنا الديمقراطي والإصلاحي والتنموي إلا بمحاربة الفساد، كما لابد أن تأتي هذه الخطوة ضمن جهد يستهدف إيجاد منظومة تشريعية متكاملة هدفها أولاً وأخيراً مواجهة كل مظاهر الفساد واستحداث الآليات الفعالة لهذا الغرض، مع مراعاة أن المزيد من التأخير في هذا المجال لن يفهم منه إلا أن هناك من يريد أن نبقى نراوح في مكاننا على صعيد محاربة الفساد، وتحويل أي جهد يزعم أنه يبذل في هذا السياق إلى مجرد شكليات الهدف منها البهرجة الإعلامية والتسويق الخارجي، وهو للأسف جهد لا يمكن أن يتقدم بنا خطوة واحدة إلى الأمام.
إن مجلس النواب حينما أقر بالإجماع في 30 أكتوبر2007 اقتراحاً بقانون بإنشاء هيئة عليا لمكافحة الفساد فإن الهدف المعلن هو تعزيز وتفعيل جهود محاربة الفساد، ودعم الجهات الرقابية وتقويتها في مراقبة كافة المؤسسات التي تخضع لاستخدام المال العام، بالإضافة إلى تفعيل الشراكة الكاملة بين مختلف قطاعات المجتمع، وهذه مسألة لا يمكن أن يختلف أحد على أهميتها فقضية مكافحة الفساد وتعزيز مبادئ الشفافية والنزاهة هي قضية مجتمع وليست قضية طرف بعينه، ولكن على مجلس النواب أن يدرك بل عليه أن يتشدد ليس على إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد فحسب، وإنما على أن تكون ضمن اختصاصات هذه الهيئة – تماماً كما هو الحال بالنسبة للهيئات المماثلة التي أنشئت في بعض البلدان- وضع إستراتيجية وطنية لمكافحة الفساد، وتحديد آليات تفعيلها، واقتراح الإطار التشريعي والقوانين واللوائح ذات الصلة التي تؤدي إلى مزيد من الشفافية والنزاهة، وتعزز من أطر المساءلة والمحاسبة، وترصد حالات الفساد المالي والإداري وتدعم جهود الجهات الحكومية في أدائها في مكافحة الفساد وترسيخ شفافية المالية العامة، وتضع آليات سد الثغرات ومصادر نفاذ الفساد في الخدمات الحكومية وإجراءاتها. هذا أولاً..
وثانياً على مجلس النواب أن لا يبدي أي تراخ في استكمال منظومة التشريعات الداعمة والمشجعة على مقاومة الفساد، والانضمام إلى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وفي مقدمتها الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، خاصة وأن إنشاء هيئة عليا لمكافحة الفساد يشكل أحد الالتزامات والاستحقاقات التي تترتب على هذه الاتفاقية الدولية التي عبرت عن إرادة المجتمع الدولي حيال ظاهرة الفساد والشعور بمخاطرها المدمرة على حياة الشعوب، ومن ثم على أمن الدول واستقرارها، وتقويض المؤسسات الديمقراطية ومشاريع التنمية وتفشي ظاهرة الجريمة المنظمة.
الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد وقعت عليها البحرين في ٨ فبراير2005، ممثلة في مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة وكان آنذاك السفير توفيق منصور، وأشاد من أشاد بهذه الخطوة التي قيل بعد التوقيع عليها مباشرة بأنها تأتي في سياق انضمام البحرين إلى الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي ترمي إلى تعزيز وحماية حقوق الإنسان وإرساء سيادة القانون ومنع الفساد ومكافحته، بل وقيل إن انضمام البحرين إلى هذه الاتفاقية هي بداية صحيحة للسير في اتجاه الإصلاح الحقيقي، ولكن تبقى مسألة المصادقة على هذه الاتفاقية حتى الآن في علم المجهول، رغم أن وزير العدل بشرنا في ٢ فبراير 2008 عن قرب إحالة الحكومة للبرلمان مشروعاً بقانون للتصديق على هذه الاتفاقية، وأن اللجنة الوزارية تبحث حالياً الالتزامات القانونية المترتبة على تنفيذ الاتفاقية، “وبقيت أشياء بسيطة”، كما قال الوزير تمهد لإحالة مشروع القانون لمجلس النواب.
نعلم جيداً أن المصادقة على هذه الاتفاقية بات أمراً لابد منه وندعو بإلحاح إلى ذلك لأن هذه الاتفاقية ترمي إلى ترويج وتدعيم التدابير الرامية إلى منع ومكافحة الفساد بصورة أكفأ وأنجح، وتروّج وتيسّر وتدعم التعاون الدولي وتقدم المساعدة التقنية للدول الأعضاء في مجال منع ومكافحة الفساد وتعزيز النزاهة والمساءلة والإدارة السليمة للشؤون والممتلكات العامة.
لهذا يتوجب على أعضاء مجلس النواب في دورة الانعقاد القريبة للمجلس أن يثبتوا قدرتهم على القيام بدور فاعل في مجال التصدي للفساد وإهدار المال العام، وهو دور يجب أن يدافعوا عنه بكل ضراوة، والنواب قادرون على أداء هذا الدور إذا أرادوا لأنه في صميم مسؤولياتهم، المهم أن تكون النيات صادقة وأن يكون هناك إيمان عميق بهذا الدور الذي قد يكون أخطر الأدوار وأعمقها أثراً، وبالتالي لابد على النواب أن يتعاملوا مع ملف الفساد برمته بقدر أكبر من الجدية والمسؤولية، وأن يجعلوا إنشاء تلك الهيئة والمصادقة على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد وإيجاد منظومة متكاملة من التشريعات التي تجعل من حرمة المال العام هدفاً وغاية، ضمن أولوياتهم في الفترة القريبة المقبلة، وهي أولويات يجب أن تتلاقى عليها الإرادات وتشحذ حولها الهمم، وتستعلي فوقها الحساسيات والمساومات والمرارات والنزوات والمزايدات.
نقول ذلك لأن التجربة أثبتت أن أسوأ ما في تناول غالبية أعضاء مجلس النواب في الفصل التشريعي الأول أنهم حوّلوا ملفات الفساد المهمة التي عرضت عليهم إلى صراعات ومساومات وتناطح في مشهد بلغ ذروة مأساويته حين اعترت هذه التجربة النيابية الكثير من الثقوب والاختراقات التي حملت في ثناياها بعض المقاصد التي لازلنا نشكك في براءتها والتي “ميعت” وأهدرت فرصاً ما كان ينبغي أن تهدر، وكان يمكن أن تفعّل الدور الرقابي المطلوب لمجلس النواب في مناهضة الفساد، وهي تبقى على كل حال تجربة حافلة بالدلالات والدروس والعبر التي من الضروري أن تكون موضع اعتبار حينما يوضع مجلس النواب على محك ذات التجربة مرة أخرى.
بلغة العقل والمنطق والمصلحة نقول: إن معركتنا ضد الفساد أكبر بكثير مما نظن، وحاجتنا إلى مؤسسات وأجهزة تنفيذية ورقابية عالية الكفاءة وتنظيمات إدارية متطورة ومنظومة تشريعية متكاملة هي أيضاً حاجة ملحة أكبر مما نظن، والمطلوب الآن أن نخطو خطوة صحيحة في الاتجاه الصحيح.
وبذات اللغة، لغة العقل والمنطق والمصلحة نقول، إنه لا يجوز ومن المعيب أن يظهر أي كان، أو أي سلطة كانت وكأنها تقف ضد أي جهد يحارب الفساد، أو تفتعل الإعاقات التي تفرغ هذا الجهد من مضمونه.
ألأيام 5 سبتمبر 2008