لم يبدأ المسعى الروسي في رفض الأحادية القطبية في العالم، مع حرب القوقاز الأخيرة وتداعياتها، وفي هذا المجال مفيد التذكير بالخطاب الذي ألقاه فلاديمير بوتين، عندما كان لم يزل رئيساً لروسيا في افتتاح مؤتمر ميونيخ الأخير الذي شارك فيه 250 مسؤولا من بينهم أكثر من 40 وزير دفاع وخارجية، وهو مؤتمر ينعقد سنويا، وكان قد انطلق للمرة الأولى عام 1962، حيث بات يمثل فرصة لزعماء العالم لبحث أكثر القضايا العالمية إلحاحاً.
كان بوتين قد قال إن النهج الأمريكي “خطير جدا” في العلاقات الدولية ويُشعل سباق تسلح نووي، فبسبب الطريقة التي تتجاوز بها الولايات المتحدة حدودها الدولية بكل السبل، لم يعد أحد يشعر بالأمان أو أن بوسعه اللوذ بالقانون الدولي وهذا يُنعش سباقا للتسلح حيث يسعى عدد متزايد من الدول للحصول على الأسلحة النووية.
وخاطب بوتين الحضور قائلا: “ماذا يعني عالم وحيد القطبية؟ بصرف النظر عن محاولاتنا لتجميل تلك العبارة، فإنها لا تعني سوى وجود عالم يرتكز على وجود قوة واحدة تتحكم فيه. وان عالما له سيد واحد فقط قد قاد إلى كوارث. فالحروب الأهلية والإقليمية لم تقل، كما أن عدد الناس الذين يقتلون بسببها لم يقل بل زاد. إننا لا نرى أي نوع من التعقل في استخدام القوة، بل نرى استخداما مستديما ومفرطا للقوة “. وأضاف: “إن الولايات المتحدة قد خرجت من صراع لتدخل صراعا آخر من دون تحقيق أي حل شامل لأي منها”. في حينه سعت بعض الأوساط للتقليل من أهمية الخطاب، وقالوا إنه يعد إحدى الحركات التي دأبت روسيا على اتخاذها بصفة دورية للتعبير عن سخطها من تلاشي دورها الكبير الذي كانت تلعبه في الخريطة السياسية للعالم، لكن الناطق الإعلامي باسم البيت الأبيض لم يخفِ انزعاجه من التصريحات، وقال إن الولايات المتحدة تشعر بخيبة الأمل والاستغراب منها.
تطورات الأحداث الأخيرة توشك أن تبرهن أن خطاب بوتين هذا كان نقطة تحول في العلاقات الدولية، وتشير ردود الفعل القوية التي أثارها في الدوائر الأمريكية والأطلسية عامة إلى قلق من أن تسعى روسيا لاستعادة دورها المفتقد في عالم اليوم. ولعل مصدر القلق الرئيسي لا يعود فقط إلى شعور روسيا بتنامي دورها مجدداً، وإنما أيضاً إلى إدراكها للتبدلات الملحوظة في توازنات القوى الدولية أمام تعثر السياسة الأمريكية في أكثر من مكان.
وإذا كان الاتحاد السوفييتي شكل في مساحته سدس العالم، فإن روسيا وحدها تشكل ثُمن هذا العالم. ورغم الحرب النفسية التي تُشن ضد موسكو، تحت عناوين فرض العقوبات حيناً أو العزل حيناً آخر، فان الغرب ليس على كلمة واحدة في التعاطي مع روسيا التي تتحكم في عقدة مصالح اقتصادية وجيوسياسية ليس بوسع أحد في العواصم الغربية تجاهلها. وعلى قمة الهرم الحاكم في موسكو زعامة معروفة بحزمها، ومشبعة بروح المصالح القومية لروسيا، بعيدا عن الإطار الأيديولوجي السابق، مرشحة لأن تنهض بدور آخر ستكون له نتائج ليس بالوسع الاستخفاف بها.
الأيام 4 سبتمبر 2008