كنت في الأساس قد عقدت العزم مقدماً أن أدرج ضمن الموضوعات التي انوي أن أتناولها في هذه الزاوية في الأيام الأخيرة الماضية قبيل شهر رمضان المبارك موضوع الوحدة الوطنية بين طائفتي شعبنا الكريمتين واللتين تشكلان المكونين الرئيسيين لنسيجنا الوطني، ومن ثم الاستفسار عما آلت إليه مبادرة جلالة الملك الهامة بدعوة مشايخ الطائفتين ورموزهما الدينية الكبيرة إلى مائدة حوار مدعومة من الدولة والقيادة السياسية. وسبق أن اقترحت بأن يتم التحضير جيداً لهذا الحوار الوطني الكبير، وألا يقتصر فقط على رجال الدين حتى بالرغم مما لهم والدولة من دور محوري في إنجاح مثل هذا المشروع الوطني الكبير، بل أن تشرك القوى السياسية ممثلة في الجمعيات السياسية والرموز المستقلة في مثل هذا الحوار الذي دعا إليه جلالة الملك، ولاسيما الجمعيات الوطنية المعروف بعدم حملها أية هوية طائفية وبحيادها ونزاهتها في الخلافات والنزاعات المذهبية. وقلت: إن مشروعاً وطنياً توحيدياً كبيراً إذا ما أريد له حقاً النجاح فينبغي التحضير الجيد له بنفس طويل دؤوب وصبور، وان تتساءل الدولة وجميع الأطراف المدعوة للحوار نفسها مقدماً هل هي حقاً بصدد حوار مجاملات يخرج ببيان إنشائي زاه للإعلام فقط، أي فضفاض لا يهش ولا ينش مكتفياً باجترار التأكيد على الثوابت الإسلامية والوطنية والمشتركات المعروفة بين الطائفتين وذلك على شاكلة البيانات التي طالما خرجت بها ومازالت تخرج بها مؤتمرات ومنتديات حوارات الأديان والطوائف والتي تدعى إليها نخب تلك الأديان والطوائف وتخرج بتلك البيانات التي دبجتها ونشرتها وبثتها وسائل الأعلام العالمية فيما الواقع المرير من التشرذم على حاله هو هو؟ ومن ثم ” فكأنك يا زيد ما غزيت “، ام هي، أي الدولة وجميع الأطراف الدينية المدعوة للحوار بصدد ترجمة مبادرة جلالة ترجمة جادة ملموسة على أرض الواقع؟ بحيث يقوم هذا الحوار على أسس ومرتكزات شاملة وسليمة متينة لا تستثني أطرافاً أو قوى فاعلة، دينية أم سياسية في كلتا الطائفتين، ولا تستثني أو تضع فيتو على أي محور أو أي موضوع من الموضوعات والمحاور التي هي جديرة بالمعالجة والحوار.
بمعنى ألا يكتفى في هذا الحوار الديني التقاربي المنشود بالمسائل الدينية الصرفة فقط، بل ان تشمل محاور الحوار مختلف المسائل والقضايا ذات العلاقة بما يثير من حساسيات مذهبية وطائفية. ومن بين هذه المحاور المهمة، كما سبق أن ذكرت، المحور الإعلامي، والمحور الثقافي، والمحور الاقتصادي والمعيشي بما في ذلك قضايا التوظيف والبطالة، وغيرها من القضايا الأخرى.
واحسب بأنه لا يوجد بحرينيان يختلفان حول تشابك وتداخل تلك المحاور مع المحور الديني الفقهي، فالخلافات الناشئة والحساسيات التي تراكمت سريعاً خلال السنوات القليلة الماضية بين الطائفتين الكريمتين ليست مجرد على أمور فقهية او دينية صرفة، بل لها مسببات أبعادها وانعكاساتها على جميع المحاور المتقدم ذكرها والتي اقترحنا إدراجها ضمن أجندة الحوار.
قال الخليفة عمر بن عبدالعزيز: ( لم تختلف أمتي على القرآن بل اختلفت على الدرهم والدينار). وكنا بصدد بناء على ما تقدم ان نناشد الجهات الرسمية العليا ولاسيما القيادة السياسية الموقرة للإسراع باستخدام كل نفوذها وسلطاتها لتفعيل مبادرة جلالة الملك لكي لا تبقى لا سمح الله حبراً على ورق. وسبق إن اقترحنا أيضا بأن تكون أمسيات شهر رمضان المبارك الجاري شهر الفضيلة والغفران، شهر التسامح والتودد بين المسلمين لتفعيل هذه المبادرة الكريمة التي أطلقها جلالة الملك من خلال إطلاق ورش عمل تحضيرية مشتركة تختص كل منها بمحور مهم من المحاور المذكورة ذات العلاقة بالعوامل التي تثير الحساسيات المذهبية بين أبناء الطائفتين الكريمتين.
لكن ها هو شهر رمضان المبارك هل هلاله، وقد مضى على مبادرة جلالة الملك زهاء شهرين من دون ان نسمع من الجهات الرسمية والدينية المعنية باحتضان مبادرة جلالته والعمل على تنفيذها وترجمتها على ارض الواقع أي خطوات تذكر بما في ذلك مشروع «المرصد الديني«، ووضع آليات انشائه وتفعيله.
والأهم من كل ذلك ومما يدمي القلب حقاً ها هي النزاعات تتفجر داخل حتى الطائفة الواحدة وتمتد من إطار النقاشات والمشاحنات الساخنة والحملات الإعلامية المتبادلة إلى استخدام العنف الشديد والضرب المبرح لإيذاء الطرف المختلف معه كائنا من يكون هذا الطرف. كما حدث في ندوة ” الثوابت الإسلامية وبدعة السفارة ” في مأتم القائم بإسكان عالي والتي تطورت فيها المشادات الكلامية الحوارية الملتهبة إلى عراك عنيف وخطير بالأيدي. ولا شك بأن هنالك نزاعات وخلافات وان كانت اقل خطورة داخل الطائفة الأخرى.
بين وحدة الطائفة.. والوحدة الوطنية (2-2)
ظهر تيار ” جمعية التجديد ” أو ما بات يعرف داخل مجتمع الطائفة الشيعية بـ ” جماعة السفارة ” في أواخر ثمانينيات القرن الماضي من داخل أقبية السجون على أيدي رموز هذا التيار المعتقلين حينذاك لقضايا تتعلق بأمن الدولة، وكان لنفاذ كبار رموزهم بجلودهم من الاعتقال تأثيراً نفسياً لظهور هذا التيار في هذا المكان وبعد مغادرتهم السجون تباعا ظهر التيار على الساحة الاجتماعية والدينية داخل الطائفة الشيعية، واحتدم الخلاف ما بينهم وبين كبار رموز ومراجع الطائفة، وفشل الجانبان في إقناع كل منهما الآخر، بصحة وجهة نظره الدينية الفقهية بعد سلسلة من المحاورات الفردية والجماعية وعززت الأكثرية صحة وجهة نظرها بفتاوى كبار مراجع التقليد في الخارج، والأخطر من ذلك فقد فشلا في التوصل ولو لصيغة مشتركة أو الخروج بميثاق شرف للتعايش المشترك، وعدم إيذاء أي طرف للآخر، حيث جرى تكفير وتفسيق الطرف الضعيف، ولاسيما انه يمثل الأقلية. كما جرت محاربتهم دينيا واجتماعيا بقسوة شديدة بالغة لم يلق شدة صنوفها حتى نشطاء وأفراد التيارات الوطنية واليسارية في القرى من الجنسين خلال ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي أثناء محاربتهم باعتبارهم ” شيوعيين كفرة “، وهي المحاربة التي كان نشطاء تيار “التجديد” أنفسهم شاركوا فيها بحمية وبحماسة منقطعة النظير قبل دخولهم السجون، وذلك حينما كانوا أتباعا لكبار مشايخ الطائفة، أو منضمين لأحزابها السياسية الدينية السرية الكبرى وعلى الأخص ” حزب الدعوة “، وهو الحزب الذي كان آنذاك من ابرز القضايا الملحة المطروحة على أجندته السياسية محاربة ” الشيوعية “. وغداة تفجر أحداث التسعينيات والى وقت قريب بدا إن موضوع ” السفارة ” قد طواه النسيان إلى حد ما، لا بل إن المرحوم الشيخ سليمان المدني حينما أبدى استنكاره من إغلاق أو تجميد الحرب على ” جماعة السفارة ” والشيوعيين أمام بعض كبار مشايخ الطائفة وندد بتحالفهم الجديد مع الشيوعيين فرد هؤلاء عليه بأنه يريد فتح جبهة هامشية تلهي الناس عن مطالبها السياسية لكي يبرر تهربه من ” الانتفاضة “.
وظل موضوع ” جماعة السفارة ” كما ذكرنا شبه منسي إلى وقت قريب، رغم استمرار المقاطعة المحكمة لهؤلاء وتخفيف حدة محاربتهم، ورغم حذر وتجنب أفراد ” جماعة السفارة ” بدورهم من التواجد في الأماكن والمآتم والمساجد غير المرحب أو المرغوب في تواجدهم فيها.
ولكن منذ بزوغ المشروع الإصلاحي لجلالة الملك مطلع الألفية الجديدة استفاد تيار ” السفارة ” من أجواء الانفراج السياسي الجديد وما وفره من هامش للحريات العامة وحرية التعبير أيما استفادة، فأسسوا جمعيتهم “التجديد” ونشطوا علنيا بصورة ملحوظة، وعقدوا سلسلة من الندوات السياسية والدينية العلنية الناجحة واستضافوا فيها شخصيات ورموزا دينية عربية وإسلامية كبيرة من مختلف الطوائف الإسلامية، كما رفعت الصحافة المحلية الحظر المفروض على أخبار أنشطتهم وفعالياتهم درءا من إثارة الحساسيات المذهبية باعتبارهم يمثلون احد تيارين دينيين سياسيين متنازعين داخل الطائفة الشيعية. كما برزت بقوة أقلامهم في الصحافة المحلية ومقالاتهم الفكرية والسياسية والدينية، ولربما اتسعت قاعدتهم الاجتماعية أيضا. وحظيت محاضراتهم وندواتهم المتواصلة بإقبال جماهيري من كلتا الطائفتين، وأصدروا أيضا مجموعة كتب لسلسلة من الدراسات الدينية والاجتماعية والتاريخية والفكرية المختلفة حظيت باعجاب أو اهتمام رموز وجهات سياسية ودينية في البحرين وخارجها، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف جزئيا أو كليا مع رؤاها.
لكن فجأة ظهر ما لم يكن في الحسبان فقد استؤنفت الحملة الدينية التكفيرية التفسيقية مجددا عليهم بشدة وسرعان ما اشتدت الملاسنات والحملات الإعلامية المتبادلة بين الجانبين. ومثلما فسّر مشايخ الطائفة سلبية المرحوم الشيخ المدني من ” انتفاضة ” التسعينيات ومطالبته بمواصلة الحرب على الشيوعيين وجماعة السفارة برغبته في إلهاء الناس عن مطالبهم السياسية الآنية وفي مقدمتها المطالبة بإعادة البرلمان، فسرت جمعية التجديد بدورها سر استئناف هذه الحملة الجديدة المباغتة عليهم بالرغبة في صرف الناس والهائهم عن فشل تيار ” الوفاق ” داخل البرلمان وعلى الساحة السياسية والاجتماعية وتضعضع قواعدهم الجماهيرية.
وأخيرا فقد تطور النزاع إلى العراك بالأيدي على نحو ما شاهدناه وقرأنا عنه في الصحف من أحداث مؤسفة يدمى لها داخل حرم أحد المآتم الحسينية، وهو ” مأتم القائم ” بإسكان عالي خلال ندوة ” الثوابت الإسلامية وبدعة السفارة “. وهنا يتضح لنا جليا الحاجة الملحة إلى ترتيب البيت الداخلي داخل كل طائفة قبل الشروع إلى حوار بين الطائفتين.
لا احد يعلم بالطبع على وجه الدقة كيف تطورت ندوة مأتم إلى عراك بالأيدي بين عضو التجديد الحاضر وجموع الحاضرين، لكن بالتأكيد إن استخدام القوة مهما كانت المبررات في الحوارات ليس اسلوبا حضاريا، بل هو دليل ضعف على من يلجأ إليه، أيا يكن هذا الطرف، ومع إنني أقف على الحياد بين الجانبين ولي أقارب وجيران من كليهما، بل اختلف مع كليهما سياسيا رغم اعتزازي بثقافتي الشعبية وموروثي الديني الذي نشأت وتربيت عليه، إلا إنني أرى من الأهمية بمكان أن يبادر مشايخ الطائفة إدانة الطرف الذي بدأ بالاعتداء كائنا من يكون هذا الطرف. وان يتم إغلاق أو تجميد هذا الملف وإيجاد صيغة للتعايش مع الرأي الآخر دينيا أم سياسيا. ذلك بأن الأحرى بالمطالبين بتوسيع هامش حرية التعبير أن يبدءوا بأنفسهم أولا.
وإذا كانت وزارة الداخلية ليس من مسئوليتها الدخول أو التدخل في صميم المنازعات السياسية والدينية الخاصة بالطوائف مهما استعرت فإنه من صميم مسئولياتها الحفاظ على الأمن وحماية سلامة المواطنين، اذا ما تحولت إلى أعمال عنف. كما من الأهمية بمكان فتح بيوت الله والمآتم لمختلف عباد الله من دون استثناء، وعدم احتكارها أو تجييرها سياسيا أو حزبيا، وذلك على الأقل من باب مقولة الامام علي (ع): ” الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق “، لكي لا نقول اخ لك في الطائفة وفي الدين وفي القومية لا بل في كثير من الحالات هو أخ لك شقيق فعلا من رحم واحدة، حيث ان النزاع المرير بين الفريقين بات يشطر العائلة الواحدة الصغيرة منذ نحو عقدين من الزمن.
وفي اعتقادي الشخصي إن تيار ” التجديد ” بات اليوم تيارا دينيا وسياسيا فرض وجوده على الساحة بعد مرور عقدين على بزوغه ومن العبث استئصاله بجرة قلم أو بندوة، ولا يمكن إلا التعايش معه، مثله في ذلك مثل كل التيارات السياسية الوطنية والدينية العريقة التي فشلت محاولات استئصالها أيا تكن قوتها اليوم.
أخبار الخليج 1-2 سبتمبر 2008