تتضخم أوارقُ النقد في الدول العربية النفطية فالرأسمال المالي واسع، وهو عملاقٌ يقفُ على كتفِ قزم هو الآبار النفطية، ولهذا نتائج اقتصاديةٌ كبيرة. هنا يظهرُ رأسُ المال كورق فتتضخمُ مؤسساتهُ كالبنوك ومحلاتُ الصيرفة والشركات المالية المختلفة وشركات التأمين، وتحوزُ هذه نسبة كبيرة من حجم المؤسسات الاقتصادية، فتسيطر على الائتمان والتسليف ثم على التداولين الداخلي والخارجي. يظهر رأسُ المال النقدي في بداية التاريخ النفطي بسيطاً يقعُ على ضفافِ العمليات الاقتصادية، وهو لا يعدو حينئذٍ أن يكون مصرفاً غربياً يقتحمُ النسيج الاقتصادي التقليدي لدول المنطقة، وفي البداية يغدو الربحُ المالي الصرف مذموماً بشكلٍ ديني، لكن الحكومات تقوي البنوكَ الغربية الوافدة عبر جعل الميزانية الوطنية تمرُ
بها، وعبر مختلف الوسائل السياسية كأن تقوم بالاستدانة منها، فيما قوى التجار الأهلية تلجأ للصرافة ويقومُ بها في البداية غيرُ المسلمين، ثم ينخرطُ فيها المسلمون بتوسع، فالفائدةُ تفتحُ الشهية، وهو مشهد يكرر نمط العصور الوسطى بشكلٍ كمي أوسع. إن هذا الخروج الانفجاري لرأس المال النقدي يتحولُ إلى رأس المال المالي، أي يصيرُ مؤسساتٍ متخصصةً في تداول النقد وتضخيمه، وهذا يدل على تراكم النقد وعدم تطابقه مع العمليات الموضوعية في الإنتاج في البلدان الصحراوية. فهو قد تراكم بنسبة أكبر بكثير من حجم الإنتاج في البلد النفطي، ورغم ان ثمة عمليات من الخروج المالي المستمر، ومن الشراء البذخي الاستهلاكي، فإن كم النقد يتزايد خاصةً مع سيطرة الدول المنتجة على نفطها، في سوق التداول العالمي. والبلدان النفطية نمطان أساسيان، الأول صحراوي والثاني زراعي، والأول هو الأغلب والثاني هو القلة، وثمة نمط ثالث نادر هو الصحراوي الزراعي معاً. النمطُ الصحراوي هو الذي تتغلبُ على طبيعتهِ الصحراءُ بشكلٍ كبير، وإن لم يخلُ من الزراعة، وهو البلدُ الأغزرُ بالنفط لأن كونه صحراء واسعة يعني في تضاريس المنطقة القديمة احتواؤه على غابات كثيفة دُفنت وتحولت إلى نفط. وبهذا فهو لأنه صحراء استمرت لقرونٍ طويلة قام بطرد السكان من أراضيه نتيجة لجدبه. وبهذا فهو كسبَ ثروةً كبيرةً وخسرَ سكاناً، وحين توافر الفيضُ النقدي لم يجدْ من يشغله بشكلٍ يعود بالإنتاج للأرض المانحة الخلاقة، فليست هناك مؤسسات اقتصادية ضاربة في التراب الاقتصادي ومتسعة، وليس ثمة كثافة بشرية تستوعبُ الفيضَ النقدي في برامج إنتاجية، وهنا يتماثل ذلك مع أموال الفتوحات الإسلامية، فقد انهمرتْ كالمطر على أرضٍ مجدبة، فوسعتْ أشكالَ الاقتصاد الطفيلية والبذخية. كما أن علاقات الإنتاج المُشكلة بين شركة النفط والحكومة ، هي علاقة سياسية، تستهدفُ فيها الشركةُ دوامَ الإنتاج، وغربةَ السكان عن السيطرة على الإنتاج، وهو ليس سوى تسييل سائل، وتغدو الغربة أكبر بسياسة الاستيراد السكاني: من أين تأخذ هذا الفيض السكاني الآسيوي أو ذاك؟ ولماذا وهل تتحكم فيه الاعتبارات النقدية المحضة أم السياسية العميقة؟ كما أن الحكومة تستهدفُ مبالغ الإيجار، التي توزعها حسب مضارب القبيلة الحاكمة ودوام عيشها الرغيد. بحث مجلسُ الشورى في السعودية مشكلات التعليم فوجد عدم اهتمام مؤسسات التعليم السعودية بصناعات النفط وبصناعة الطاقة الشمسية وتحلية المياه. إن سيطرةَ الكم النقدي الكبير على البناء الاجتماعي يغدو له ظاهراته المتعددة، فلا يوجد في بنائهِ الوطني إلا في دائرةٍ ضيقة للتداول ولإعادة الإنتاج في مؤسسات النفط وفي العمران المنفوش المصاحب له (وهو شكلٌ من البذخ والإهدار المرسوم من قبل الإدارات) وفي الصناعات الاستخراجية والتحويلية المحدودة والجانب الأكبر على الاستهلاك، ولهذا فإن الاستهلاكَ هو القسم الأعظم من البناء الاقتصادي، ويتوجه الفائضُ النقدي الآخرُ لعمليات مماثلة كالائتمان والعقار وهو مهوى الفوائد للرأسمال النفطي، وفي حوار جريدة قاسيون مع الخبير الاقتصادي السوري السابق الذكر لمحة عن طبيعة التوجهات المالية الخلجيية البترولية: – قاسيون: هناك الآن عبارة متداولة بعد مجيء هذه الأموال الخليجية إلى بلدنا أن أسعار العقارات أصبحت أوروبية والأجور سورية . د. الزعيم (لقد توجهت أغلب الأموال الخليجية نحو العقار) إن أولويات التنمية في سورية هي تصفية البطالة والفقر، وهذا لا يتحقق إلا بالاستثمار الكثيف(التكنولوجيا)، برفع الإنتاجية، برفع القوى المضافة، والاستثمار الكثيف بالصناعات التحويلية، فليس لدينا أي استثمارات في الفروع الصناعية الأكثر ديناميكية، وأقصد الصناعات الالكترونية). إن الرساميل النفطية تتوجه نحو جميع أشكال الضمان والربح السريع، ومن هنا فإن النقد تغدو دورته سريعة، ويتوجه نحو العقار مما يؤدي إلى التهام الأراضي واضمحلال الأراض الزراعية وارتفاع أسعارها وارتفاع الإيجارات، وما يتبع ذلك من (صناعة) سياحية، وهي مفيدة إذا لم تكن شكلاً هائلاً من أشكال الهدر البذخي. وهكذا تقوم البلدانُ الصحراوية النفطية بنشرِ طبيعة اقتصادها في البلدان الزراعية، فتضعف الزراعةَ فيها، عبر جلبِ القوى العاملة الزراعية والحرفية ومن ثم تدني إنتاج الأرض والزراعة، ويؤثر كذلك أيضاً في أسعار الحاصلات الزراعية. تقول باحثة مصرية بأن عدد المصريين المهاجرين كعمالة إلى الدول العربية قد تصاعد من سبعمائة ألف سنة 1975 إلى المليونين في 1990 أما في السنوات التالية فقد بلغ عدد المصريين في السعودية وحدها نحو المليون مصري. أما عن طبيعة أغلب مهن هؤلاء فتقول الباحثة(رقية حجازي) فقد انحدروا من بيئة زراعية وحرفية ومهن بسيطة عموماً. (عن مركز الدراسات الاشتراكية). وهذا ما يؤدي إلى تغيير خريطة السكان في المنطقة العربية التي تزحف نحو المناطق الصحراوية، والاكتظاظ في مدنها، وهي العامرة كذلك بفيض سكان آسيوي، فتحدث عملياتُ انتقالٍ للمحافظة الدينية من المناطق الصحراوية للزراعية، فتغدو الثروة كأنها نتاج مصادفات قدرية كما اوضحنا وهو أمر يشيعُ القدريةَ بمعناها السلبي، وتتصاعد كراهيةُ العمل اليدوي وتتضخم الأجهزة الإدارية، وتنتشر ثقافةُ التسطيح واللاعقل.
صحيفة اخبار الخليج
2 سبتمبر 2008