فتحت حرب القوقاز الأخيرة، وتداعياتها المتفاعلة، مجالاً واسعاً لاستقطاب حاد قد يضاعف التوتر الدولي القائم، المفضي إلى نوع من أجواء الحرب الباردة – بصيغة أخرى- لا تشبه ما كانت عليه حينما كانت المنافسة على أشدّه بين نظامين اجتماعيين/ اقتصاديين مختلفين متناحرين هما؛ التشكيلة الرأسمالية (تكونت منذ 500 عام) السائدة في المركز الغربي وتخومها في الأطراف. والتشكيلة الاشتراكية، التي سادت في شرق أوروبا وقسم كبير من آسيا وجيوب هنا وهناك، لم تستمر أكثر من ثمانين عاماً (كانت تسمى بصدام الأيدلوجيات). بينما التناقض الحالي (يعرف بصدام مصالح) بين الشرق الروسي والغرب الأميركي/الغربي له قوانينه الداخلية الخاصة، تتحكم في استحقاقات مصلحية وتنافسية عديدة، تستقر في نهاية المطاف على أحد نهجين في التعامل؛ نهج عقلاني في مقارعة الواقع والتسليم بالمصالح القومية المشتركة للكل بحيث لا يجري تجاوز الخطوط الحمراء المتحكمة في مصلحة كل طرف. أو نهج حديّ أهوج لايرى ألا مصلحة نفسه، بسبب تصوره أنه الأقوى، الأمر الذي يؤدي – بالطبع- إلى تأزم الوضع الدولي برمته!
والمفارقة التاريخية الغريبة هنا أن عصر التناقض التناحريّ، اتسم بتوازنٍ دوليٍّ واضح، رافدته حركة سلمية عالمية بالرغم من حروب الإنابة، التي جرت في دول عديدة من العالم الثالث. بينما ظلت القارة العجوز بمنأى عن الحروب والتوترات، منذ أن وضعت الحرب الكونية الثانية أوزارها في سنة ,1945 حتى الوقت الحاضر.. لكن اليوم، بسبب التنافس الجديد بين الشرق والغرب وعودة روسيا إلى ميدان اللاعبين الكبار، عاد التوتر الدولي من جديد إلى قلب أوروبا، من خلال مشكلة القوقاز الحالية، وان كانت الأطراف المتنازعة تدين بالتشكيلة الاجتماعية/الاقتصادية الرأسمالية المعاصرة السائدة في عالم اليوم!
غير أن الحزم وسرعة اتخاذ القرار، الذين جسدتهما القيادة الروسية الحالية، في تعاملها مع الوضع القوقازي الحالي قد أربك صناع القرار في الغرب.. ففي لمح البصر، لم تتعد يوماً واحداً من اتخاذ مجلسيّ الفدرالية والدوما الروسيين القرار التاريخي بالإجماع؛ الاعتراف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. وقع الرئيس الروسي ميدفيديف، مرسوماً بالاعتراف بهما، مصدقاً على قرار النواب الروس، الأمر الذي كان يُنظر له بعين الشك حتى من قبل بعض المحللين الروس، حيث اعتقد هؤلاء أن الرئيس الروسيّ لا يقدم على قرار حاد كهذا، أو انه سينتظر فترة قد تدوم أسابيع قبل اتخاذ قرار خطير بهذا الحجم!
فجوهر المشكلة – في اعتقادنا- يتلخص في أن القطب الأميركي الأوحد (بتأييد من مؤازريه الأوربيين) لايريد استمرار هيمنته الدولية المعهودة فحسب، بل يبدو ملهوفاً وشرهاً لتجاوز حدود هذه الهيمنة، الذي لا يسمح به الوضع الموضوعي على الأرض (روسيا هي البلد الوحيد المتميّز بـالقوة الرافعة الضخمة المتأتية من وضع الجغرافية- السياسية (جيوبوليتيك)’ الفريد، المتجسد أساساً في العامل الموضوعي، أي قوة ‘اليورو آسيا’ الكامنة !)، محاولا بالقوة تغيير عامل الجيوبوليتيك هذا لصالح عامل الجغرافية- الإستراتيجية (الجيواستراتيجي)، أي السيطرة على المفاصل الإستراتيجية المحيطة بروسيا بهدف تضعيف هذا البلد القاريّ الضخم، انطلاقا من ‘الثورات’المضادة/ الملونة/ المفتعلة والمفصّلة في دوائر الأطلسي والبنتاغون خصيصا لأنظمة ‘ديمقراطية’ شكلية واستبدادية، مستفيدة من العداءات التاريخية والمنغّصات الماضية بين روسيا والدول التي كانت تدور في فلكها!
لايبدو الهدف الأميركي مستحيلاً فحسب، بل إن الحقائق على الأرض لا تزكّيه أبداً، ليس بسب عدم منطقيته، بل إن القطب الأقوى الأميركي ليس بمقدوره- من جميع النواحي- القيام بذلك في ضوء ميزان القوى الدوليّ الحالي، خاصة أن الولايات المتحدة الأميركية تعاني من صعوبات بنيويّة داخلية وعداء خارجي مستفحل في المناطق القريبة من مركز الصراع الحالي (الشرق الأوسط/ العراق/أفغانستان/ إيران..الخ)، حتى وان ظلت بضعة جيوب قريبة من بلدان متاخمة للحدود الروسية (مثال النظام الجيورجي الحالي) تزايِد في الوقت الحاضر على تلك المخططات الأميركية!
لمتابعة فهم المشكل هذا، لابد من معرفة جذور المشكلة الروسية الجيورجية المزمنة، تحديداً المتعلقة بإقليميّ أوسيتيا الجنوبية (أوسيتيا الشمالية تابعة للاتحاد الفدرالي الروسي) وأبخازيا، اللذين انسلخا الآن من جيورجيا، بعد أن كانا لسنوات طويلة ضمن جيورجيا كجمهوريتين تتمتعان بحكم ذاتي، وان كانتا على الدوام تتمردان على الهيمنة الجيورجية. لعل هذه الخلفية التاريخية بحاجة إلى طرح معمّق، لكن من الممكن الإشارة إلى لمحة تاريخية لجيورجيا نفسها على أن نرجع مرة أخرى إلى أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، اللتين سبق أن خضعتا لاستفتاء عام على الاستقلال وحصلتا على تفويض شعبي اقترب من المئة في المئة، ارتأت روسيا في حينه أن تؤخر اعترافها بهما.. غير أنها قد ردّت الآن الصّاع صاعَيْن على ما فعله الغرب حيال استقلال إقليم كوسوفو الصربية.
جيورجيا دولة شرقية قديمة وعريقة، تنازعت عليها ممالك وإمبراطوريات أقوى منها في تاريخها المديد. ظلت لعقود وأحقاب طويلة ضمن الإمبراطورية الفارسية في فترات من العصر القديم والوسيط والحديث (وقعت بعض الوقت تحت السيطرة العثمانية)، استمرت حتى بدء القرن التاسع عشر، حينما ضمتها روسيا إلى إمبراطوريتها. وفي خضم الثورة الروسية، انطلاقا من مبدأ حق تقرير المصير لجميع الشعوب، أصبحت جورجيا دولة مستقلة في العصر الحديث لفترة قصيرة جداً (بين العامين 1918 و1921). ثم ما لبث أن صارت بعدها إحدى الجمهوريات الخمسة عشرة، ضمن جمهوريات الاتحاد السوفيتي التي تأسست في سنة .1922 ولكنها شكلت على الدوام، لأسباب عديدة كالإباء القومي والتاريخ العريق والموقع الجغرافي، نزيفاً تاريخياً لروسيا القيصرية أولاً وبعد ذلك للاتحاد السوفيتي، الأمر الذي حدا بأقوى رجالاتها (يوسف ستالين) من اتخاذ مواقف حادة تجاه بلده الأصل ومسقط رأسه، وإن قام في مستهل الثلاثينات من القرن الماضي، لأسباب راجعة لضرورات التوازن الداخلي/القومي من إلحاق جمهوريتي الحكم الذاتيين؛ ‘أبخازيا’ و’اوسيتيا الجنوبية’ للجمهورية الجيورجية، التي لم تستطع- الأخيرة هذه- أبدا من لجم المنحى الانفصاليّ لدى الأوليتين، ليس في حينه ولا عند استقلال جيورجيا أو حتى في الوقت الحاضر. حاولت جيورجيا مرارا من إعادة الكرّة، تلخصت أخيراً في استيلائها على ابخازيا بالقوة في مستهل هذه الألفية ولكن رُدّت على أعقابها من قبل الأبخازيين، بمساعدة الروس.. وما هذه الحرب الأخيرة (بمساعدة الغرب) سوى محاولة مستميتة لإعادة الإقليمين المتمردين للحظيرة الجيورجية كبروفة ضرورية لدخول جيورجيا – ملحقاً بها المنطقتين الجيواستراتيجيتين الأهم (أبخاريا وأوسيتيا الجنوبية) – النادي العسكري الغربي ‘حلف شمال الأطلسي’!
صحيفة الوقت
31 اغسطس 2008