لم يكن في الخليج والجزيرة العربية ملكيات عامة إلا فيما يتعلق بالمراعي وحقول الصيد البحرية المشتركة، في العصر الحديث، فكانت الملكيات الخاصة في الإنتاج هي السائدة، ولكن اعتبرت الحكوماتُ هي المالكةُ للأراضي غير المحددةِ السياق، وهذا أمرٌ ناتجٌ من طبيعة الحكومات التقليدية التي جرى العرف باعتبارها مالكة للأراضي العامة ومصادر الثروة. فلم يكن هناك دستور حديث يحدد من يملك الأرض والموارد التي قد تظهر فيها مثل هذه الثروات. وقد جرى العرف باعتبار المراعي والبقع النفطية ملكية للناس، وفي الحديث النبوي(الناس شركاء في الكلأ والنار والماء).
وبعد ذلك تاه هذا المعنى في الدول المسماة حديثة وقيل (ملكية الدولة) من دون القول ملكية الناس، وهذا يذكرنا برد أبي ذر الغفاري على معاوية بن أبي سفيان حين قال الأخير (مال الله)، فقال له بل قل مال الناس. وكأي صناعة فإنها تعتمد على المواد الخام المتوافرة في المكان، وقد كانت المواد نادرة، فهناك المواد الزراعية التي نشأت من نتاجها وكانت ترتبط بالنخلة سلة من الحرف. أما المعادن فقد كانت شبه معدومة على الأقل في مستوى تطور أدوات الإنتاج وقتذاك. ومن هنا كان الخليجُ العربي متصحراً صناعياً، وحين ظهر البترول غدا البضاعة المركزية التي تنشأ منها مجموعةٌ من الصناعات، لكنها كصناعةٍ حكومية خرجت من التداول الخاص لفترة مديدة، في حين كانت التجارة خاصةً منذ البداية ولها مسارها المختلف. فنجد ان ثمة فوائض ثلاثة أساسية تجمعت معاً لتشكيل الصناعات العامة والخاصة الجديدة، والفائضان الأول والثاني هما الناتجان من صناعة النفط الاستخراجية، ويتفرعان كفوائض للإدارات والمسئولين السياسيين ثم لشركاتِ المقاولات مزودةِ المواد والقوى العاملة لشركات النفط وكذلك هناك العاملون المستفيدون من الرواتب والأجور، ويغدو لهذين المصدرين الفيضيين الماليين الأخيرين درجة تطور تاريخي، تبعاً لكم الفيض النقدي. فهما يختلفان عن الفيض الناتج من شروط سياسية أو من شروط اقتصادية تجارية، فهما نتاج تطور الأجر الذي سيأتي لاحقاً بعد عقود من ظهور النفط. وإذا كانت كل هذه الفيوض المالية مرتبطة بتطور سلعة النفط في السوقين المحلي والعالمي، فعلى مدى أحجامها تتشكل الفئات، فإن النوع الثالث من الفيض النقدي هو نتاج التجارة الخاصة، وهو مصدر قديم لا يرتبط بل يرتبط بالسلع القديمة كاللؤلؤ والتمر والمحاصيل الزراعية عموماً والاستيراد والتصدير. لم يعرف الاقتصاد العربي التقليدي التلاقح بين التجارة والحرف، التي سُميت الصناعات اليدوية، فجاءت مادةٌ جديدة هي النفط وبدأتْ بتشكيل سلسلةٍ من الصناعات الحقيقية المرتبطة بها، وهي أكبر الصناعات وأهمها في الحقل الاقتصادي، ثم جاءت مجموعةٌ ثالثة من الصناعات مرتبطة بطاقة الغاز لهذه البضاعة البترولية المحورية، وهناك صناعات كذلك مستقلة ولكن تنتعش على وجود مثل هذه الطاقة المتوافرة بكثرة. فظهر بناءٌ اقتصادي جديد لا يمت بصلة للماضي، فهو بلا جذور، وبهذا كان ربطهُ بالعوامل السياسية السائدة سهلاً، سواء بقرارات الدول أم بنفوذ الموظفين أم بمبادرات التجار. هنا يلعب بالتالي النفوذُ الحكومي دورَه الكبير في تشكيل القاعدة الصناعية عامة وخاصة، فهو يسيطرُ على تشكيلِ الصناعة ويحددُ الموادَ المستخدمة والمناطقَ التي يجري فيها التصنيع والفئات السياسية والتجارية التي تستفيد من هذا التصنيع. وهذا كله يلعبُ دوراً أساسياً في إنشاء السوق الوطنية، لكون بضاعة النفط هي البضاعة المحورية في السوق، فهي التي شكلتهُ ومحت ما قبله، ولكون الصناعات الكبرى تنتجُ منها، وبالتالي فإن الفئاتِ المستفيدةَ منها تغدو هي أكثر الفئاتِ تملكاً للفيضِ النقدي، وعلى توظيفاتها ونوعية التوظيفات تتشكلُ المستويات الاقتصادية الأخرى. ولهذا كله لدينا صناعة ذات مادة عابرة مرحلية ترتبط بها صناعاتٌ تقومُ على تلك المادة العابرة، الاستثنائية، ومن هنا يكون أغلب البناء الاقتصادي مرحلياً عابراً، مرتبطاً باستمرار المادة ومنتهياً بنضوبها، ومتذبذباً صعوداً ونزولاً حسب أسعارها. وهذا الارتباطُ الهامشي العابر، يجذر خريطة اقتصادية واجتماعية كبيرة في كل دولة، حسب مدى نسبة بضاعة النفط لمجمل البناء الاقتصادي، فتزدادُ المرحليةُ والنسبيةُ مع اتساع حجمها في هذا الاقتصاد، فتكون الرجةُ في حالة نضوبها أعظم من دول أخرى تكون النسبة أقل. ومع نمو الصناعات الاشتقاقية من الصناعة البترولية المركزية، وتزايد علاقاتها بالاقتصاد عبر إنتاجها حرفاً أخرى، فإن الشبكة الاقتصادية كلها تكون مُهددة. لكون أي صناعة اشتقاقية تحتاج هي الأخرى إلى حرف وصناعات تكميلية، وطرق وطاقة وعمالة الخ، فيزداد الاستناد على مادة مؤقتة.
صحيفة اخبار الخليج
31 اغسطس 2008