أحد أهم المفاهيم التي تتكرر في حديثنا اليومي هو مفهوم الواقع. نبدأ حديثنا عادة بعبارة: »في الواقع…«، ثم نكمل الحديث، وتضفي هذه العبارة رصانة ووجاهة على كلامنا، لأن مؤدى العبارة هو أن ما سنقوله بعدها صحيح تماما. كل الباحثين والكتاب والمختصين يتحدثون عن هذا الواقع إما بغية هجائه وتقريعه وفضح مثالبه، وإما بهدف الدعوة إلى تغييره وتطويره. ولكن هل حدث أن تساءلنا ما هو الواقع بالضبط؟ هل الواقع الذي تتحدث عنه الحكومات هو نفسه الواقع الذي تعنيه الشعوب، وهل الواقع الذي يشخصه مفكر أو مثقف حديث هو نفسه الواقع الذي يشخصه مفكر أو مثقف آخر برؤية أخرى مغايرة أو محافظة، هل الواقع قبل عقد من الزمان هو نفسه الواقع اليوم. أو هو نفسه الواقع الذي سنكون عليه بعد عشر أو عشرين سنة منذ الآن؟! يزيد من دقة السؤال إننا نقرأ ونسمع عن تشخيصات مختلفة عن هذا الواقع، فما نقراه عند أحدهم نجد نقيضه عند آخر. أين هذا الواقع إذا، أي تشخيص نصدق أو نتبنى، وهل هذا التبني كاف ليجعل تشخيصنا عن الواقع هو الواقع نفسه، أم أن الأمر لا يعدو كونه في الأخير قناعة ذاتية تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب بالطبع، وان الواقع هو شيء آخر مستقل عن قناعاتنا وانطباعاتنا، انه عالم موضوعي مستقل عن وجودنا كأفراد. لكن الانسياق وراء هذا النوع من الفهم قد يقودنا إلى مأزق آخر، هو أننا لا نستطيع أن نعي هذا الواقع، وأن ما في أذهاننا من تصورات ليست سوى تهويمات ذاتية عن عالم قائم له قوانين تطوره الخاصة به التي لا تأبه بنا ولا برغباتنا. الأغلب انه توجد عدة مستويات للواقع، هناك أكثر من واقع، صحيح إننا نعيش في عالم واحد وننفعل ونتفاعل تجاه قضايا واحدة، لكن طريقة حساسيتنا تجاه هذا الواقع مختلفة، وتدخل في ذلك عوامل عدة بينها طبيعة رؤيتنا للأمور ومستوى ثقافتنا وطريقة تقيمنا للأحداث والظواهر، ما يراه احدنا واقعا ليس بالضرورة هو ما يراه سواه، وما يظنه صحيحا ليس هو بالضرورة كذلك. إذا كان لمثل هذا الفهم من ميزات، فإن الميزة الأساس هو انه يؤكد على صعوبة وربما استحالة الإمساك بالواقع بين اليدين وتحديد معالمه كما نحدد حدود بلد من البلدان على الخريطة، وبالتالي فان ليس ثمة قراءة ناجزة ونهائية لهذا الواقع الذي من طبيعته انه في حالة سيرورة دائمة لا تعرف التوقف. والقراءة التي تدعي لنفسها أنها الكلمة الفصل تسقط عن نفسها الصدقية لأنها توقع نفسها قبل الآخرين في مأزق هو استحالة التراجع عن موقف وصفته بالنهائي والكلي. ونظن أن جوهر التعصب، كائنا ما كان شكله، إنما يكمن تحديدا هنا.
صحيفة الايام
31 اغسطس 2008