احترت كثيراً في اختيار عنوان لمقالي هذا عن الراحل الجميل جمال عمران، حتى استقر رأيي على العنوان أعلاه، لأن جمال رحل مبكراً، حتى قبل أن يبلغ الخمسين من عمره، وكان بإمكانه أن يعيش عشرين أو ثلاثين سنة أخرى، لولا معاناته المضنية في السنوات الأخيرة.
أمر مفزع ومحزن في الآن ذاته، أن هذا الرجل الذي خبر المنفى ومرارة الغربة، سيموت من الغربة أيضاً، ولكنها غربة أكثر ضنى، هي الغربة في الوطن، ومصيره الفاجع، كما مصير رفيقه حميد عواجي من قبله، يُسلط الضوء مُجدداً على حال أولئك الذين باتوا يعرفون بالعائدين من المناضلين المنفيين الذين شملهم العفو العام، وعادوا إلى الوطن بعد طول معاناة، ولكن الكثيرين منهم ظلوا بلا أعمال ولا سكن، هم الذين لم يتركوا بابا من أبواب الجهات المعنية ولم يطرقوه من خلال لجنة العائدين التي كان الراحل أحد نشطائها.
جمعتني وجمال عشرة طويلة في دمشق، حيث عشنا في شقة واحدة لعدة سنوات، ثم التقينا ثانية، ولعدة سنوات أخرى في الإمارات. غادر الراحل، وهو في عز شبابه وحيويته موسكو التي لم يحتمل صقيعها إلى دمشق، حيث أعطى كل طاقته وجهده ووقته للعمل الوطني بكل تفانٍ ونكران ذات، بعيداً عن وطنه وأهله وابنته خلود، حيث كان عن حق شعلة نشاط ودينامو مكتب جبهة التحرير الوطني في العاصمة السورية يومذاك والواقع في مجمع مكاتب التنظيمات الوطنية العربية قبالة فندق أمية.
وكان جمال شغوفاً بالكتب والقراءة بصورة لافتة، وسأظل اذكر المشاوير التي جمعتنا إلى مكتبة وزارة الثقافة السورية في أبو رمانة، حيث كنا نتابع جديد الإصدارات والترجمات التي تصدرها الوزارة وتباع بأسعار رمزية، وكذا الحال إلى مكتبة ميسلون في الصالحية التي كانت تولي عناية خاصة للكتب التقدمية، وبقية المكتبات في مركز المدينة.
لا أبالغ إذا قلت إن جمال كان يلتهم الكتب التهاماً، وكثيراً ما دلني على عناوين جديدة من الكتب التي لفتت انتباهه، وقد قاده هذا الشغف بالقراءة إلى محاولة كتابة خواطر شعرية، كان يلح عليَّ أن أسمعها، وظل على هذه العادة سواء عندما كنا في الإمارات أو عندما عدنا للبحرين، حيث يهاتفني ليلاً قائلاً: أريدك أن تسمع هذا النص الذي كتبته الآن.
بعض محاولاته الكتابية و خواطره نُشرت على النسخة القديمة من الموقع الاليكتروني للمنبر التقدمي، وهي في الإجمال تعبر عن مكابدات الغربة، وتنعكس فيها أصداء ما يطالعه من كتب.
آخر حديث بيننا بالهاتف كان بعد وفاة محمود درويش، حيث سألني ما إذا كنت قد شاهدت على التلفزيون جنازة الشاعر في رام الله، معبراً عن تأثره بالحشود التي ودعت درويش، ورغم أن صوته كان مُجهداً، لكنه بدا في مزاج جيد، ولم يدر بخلدي ساعتها أني لن أراه ثانية إلا وهو مسجى على مغسل مقبرة النعيم قبل موارة جثمانه الثرى.
إلى جنة الخلد يا أبا خلود.
الأيام 30 أغسطس 2008