صديق تابع الحلقات السابقة من هذا الموضوع قال لي يائساً: حتى لو التقي”التقدمي” و”وعد” ومعهما بقية القوى والشخصيات الوطنية والديمقراطية التي تحدثت عنها في مقالاتك، فلن تتحولوا إلى قوة تضاهي نفوذ التيارات الإسلامية المهيمنة على الشارع. ولا يشذ رأي هذا الصديق عن آراء تيئيسية سمعتها مراراً خلال السنوات الماضية من الكثيرين تتساءل عن مدى جدوى الذي نفعله إزاء صرامة الواقع الذي نعيش فيه وجهامته، وأمام عدم جدية أجهزة رئيسية في الدولة في انجاز الإصلاح، وأمام هيمنة القوى الإسلامية والمحافظة على الشارع، ولسان حالهم يقول: تهدرون وقتكم وصحتكم من أجل ماذا؟، من أجل لا شيء!
الانسياق إلى هذا الرأي يستدعي التساؤل: هل على التيار الديمقراطي أن يُخلي الساحة للقوى المهيمنة حالياً، ويتنازل طواعية عن مواقعه لأن الرياح ليست مؤاتية لإبحاره في اللحظة الراهنة، أو في أية لحظة قادمة أخرى؟ ولكي أكون أميناً يتعين عليّ التوضيح أن بعض أصحابنا من الوطنيين والديمقراطيين الذين اختاروا لسببٍ أو لآخر أن ينأوا بأنفسهم عن معترك العمل السياسي اليومي، بكل ما يجلبه من توترات وضغوط وأمراض، هم أكثر من يُكرر هذا القول المتشائم، ربما ليلتمسوا لأنفسهم العذر في خيارهم هذا، ناسين أن هذا الخيار بالذات هو أحد أسباب قوة شوكة التيارات الأخرى الطائفية والمحافظة، حيث خسرنا طاقات الكثيرين من هؤلاء الأصحاب التي لم نجد من يُعوضها.
وعودة إلى موضوعنا، فان قوة التيار الوطني الديمقراطي لا تُقاس، ولا يجب أن تُقاس عددياً أو كمياً، وحتى بهذا القياس هي ليست قليلة ولكنها مشتتة ومُغيبة، وإنما هي قوة نوعية بالكوادر التي يمتلكها هذا التيار في المجالات المختلفة، وبالخبرة والتجربة السياسية التي لا تتوفر عليها التيارات الأخرى، والأهم من ذلك كله بالبرنامج السياسي – الاجتماعي – الثقافي العصري والواقعي والديمقراطي وغير الطائفي الذي يمتلكه هذا التيار. والتجربة تؤكد أن حاصل تجميع قوى سياسية في إطار تنسيقي أو تحالفي لا تؤدي إلى حاصل جمع هذه القوى رياضياً، وإنما تضاف إلى هذا المجموع قيمة مضافة ناتجة من الأثر الذي سيتركه تأثير هذه القوى وفعاليتها، وقد التقت، في النشاط السياسي في المجتمع، حين يجد الناس البديل المقنع أمام إخفاق التيارات الطائفية المعنية بتناحرها وبغنائمها الفئوية أكثر من اهتمامها بموجبات البناء الديمقراطي والوطني.
تشاء الصدف أن أطالع وأنا اكتب هذه السطور تقريراً من العراق على المجلة الاليكترونية: “إيلاف”، يتحدث عن تراجع مكانة التيارات المذهبية والطائفية هناك أمام تحسن مواقع القوى العلمانية، بعد أن أُصيب المجتمع بإحباط من أداء الطائفيين وتورطهم في الفساد وفي الممارسات القمعية.
ونحن أميل إلى أن لا نُحمل الأمر أكثر مما يحتمل، لأن استعادة القوى العلمانية لمواقعها في العراق أو في البحرين أو في أي بلد عربي وإسلامي آخر مسألة معقدة وتتطلب جهوداً وتضحيات مُضنية، لكن لا يجب الاستخفاف بالمعطيات التي يقدمها هذا التقرير، لأن التجربة ستُظهر بعد حين أن التيارات المهيمنة الآن هي أعجز من أن تنتشل مجتمعاتنا من المآزق التي هي فيها، ومسؤولية التيار الديمقراطي تطوير جاهزيته، لكي يقنع الناس فعلاً وقولاً انه البديل الحقيقي.
صحيفة الايام
28 اغسطس 2008