كل مواطن يتمنى ويريد، كان يتمنى ولا يزال، وكان يريد ولا يزال لو أن جهداً حقيقياً ملموساً قد بذل في بلادنا على صعيد محاربة مظاهر الفساد وبدء مواجهة جادة لكل أنواع المخالفات والتجاوزات واستغلال النفوذ والتربح من الوظيفة العامة والتعدي على القانون والمال العام من قبل أي كان وفي أي موقع من مواقع المسؤولية.
وكل مواطن لا يستطيع حتى الآن أن يدعي أنه يعرف، أو كان يعرف، أو صار يعرف، أو أنه على وشك أن يعرف أن هناك خطة أو مشروع خطة أو ملامح خطة، أو سياسة، أو إستراتيجية أو برنامج معلن وواضح المعالم والمنطلقات والمحاور في مجال محاربة ومقاومة الفساد وقطع دابره حيثما وجد ومهما كان الثمن.
ولكن صار بوسع المواطن هذه الأيام أن يسمع بلا عناء قرع طبول الحرب ضد الفساد والرشوة والتكسب غير المشروع في أكثر من دولة مجاورة جعلت مكافحة الفساد قضية في منتهى الحيوية، وباتت تتشدد على وضع هذه القضية في صدارة أولوياتها وأقرنت ذلك بالتأكيد على توفير الضمانات الكفيلة بعدم إفلات كل من أخطأ أو انحرف أو عبث بالمصلحة العامة من دائرة الحساب ومن قبضة العقاب اقتناعاً بأن ذلك أمر لابد منه دعماً لمسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولإشاعة الثقة في بيئة الأعمال والاستثمار وتحقيقاً للأمن الاقتصادي الضروري اللازم للنمو وجذب المستثمرين.
لذلك يأتي إعلان حكومة دبي مؤخراً بأنها تقف بحزم ضد مختلف مظاهر الفساد والرشوة والكسب غير المشروع، والمباشرة في اتخاذ الإجراءات القانونية ضد مرتكبيها ووضع ذلك ضمن أولويات الحكومة، مع تحذيرها اللافت بأنه لن تكون هناك حصانة لأي مسؤول يستغل منصبه لتحقيق مكاسب غير مشروعة، وترجمت هذا التوجه على أرض الواقع الملموس وعلى نحو يؤكد بأنها جادة في السعي إلى ذلك حينما أعفت في ٧٢ يوليو الماضي وزيراً من منصبه من زاوية بأنه لا مسؤولية من دون حساب، وأعقبت ذلك في خطوة غير مسبوقة على مستوى المنطقة بإحالة الوزير إلى القضاء بتهمة خيانة الأمانة، ثم بخطوة ثانية لافتة هي الأخرى عندما أعلنت عن فتح تحقيقات جدية مع أشخاص من العيار الثقيل في قضايا فساد مالي داخل مؤسسات وشركات مملوكة للحكومة.
يأتي ذلك الأمر بالنسبة للمواطن البحريني ليكون محل حفاوة وترحيب وتأييد لألف سبب وسبب لاعتبارات وجيهة لا تغيب عن ذوي الفطنة والحصافة.
نفس الترحيب والحفاوة والتأييد لألف سبب وسبب أبداه كل مواطن كان قد تابع الحملة على الفساد التي بدأت في دولة قطر قبل عدة سنوات بقيادة أميرها وكان من بين نتائجها التحقيق مع ٣ وزراء ورجال أعمال، وكذلك عندما تبنت الكويت حملة ضد الفساد، وفي هذا السياق جاء الإعلان في الأسبوع الماضي عن تبني الحكومة خطة لتدوير المناصب القيادية للحد من استغلال بعض القياديين لمناصبهم وتحديد مدة ٨ سنوات كحد أقصى للبقاء في المنصب للحد من الفساد الإداري، وكل ذلك لابد أن يكون موضع ترحاب وتقدير وتأييد لألف سبب وسبب.
ولألف سبب وسبب يأمل المواطن بأن يكون لهذا التوجه معنى هو أن مكافحة الفساد باتت فعلاً قضية في منتهى الحيوية في المنطقة، وإنها أصبحت العنوان الأبرز في قائمة أولويات حكوماتها التي باتت ضمن هذا التوجه توفر الضمانات الكفيلة التي لا تجعل الفاعل مجهولاً، أو تقيّد التجاوزات ضد مجهول، بل تحاسب كل من أخطأ أو انحرف وعبث بالمصالح العليا للوطن والمواطن حساباً عسيراً.
ولأننا نعلم جيداً بأن الفساد هو التحدي الأكبر أمام جميع الدول والشعوب، وأن المعركة ضد الفساد هو جزء لا يتجزأ من معركة الإصلاح والتنمية، بل هي البوابة الأهم للإصلاح، فإنه يغدو أمراً ملحاً أن نلحق بالركب في الوقت الذي نمتلك فيه ذخيرة قوية لا يجب أن يجيز أحد لنفسه تجاهلها، هي إشارات وتوجيهات ورؤى لعاهل البلاد حفظه الله عبّر عنها في أكثر من مناسبة، من المفيد التذكير ببعضها على الأقل لأنها يمكن أن تشكل وثيقة سياسية مهمة أو أساساً ننطلق منه في الحرب على الفساد، فجلالته هو القائـل: »بالابتعاد عن الفساد يرتقي الوطن«، وهو الداعي للمؤسسات الوطنية للالتفاف حول هذا الهدف، وهو الذي شدد على القول: »إن ضبط أدق الإيرادات والمصروفات الحكومية من أولويات الإصلاح الاقتصادي «.
إننا لا نجد دليلاً أبلغ من ذلك على توافر الإرادة السياسية للمباشرة في التصدي بكل جدية وحسم لمظاهر الفساد، لذلك بات مطلوبا التصدي للفساد بالدرجة ذاتها من الإصرار والحزم الذي عبر عنه جلالة الملك، وأن توظف وتترجم تلك الرؤى والتوجهات في خطة عمل معلنة تستهدف مواجهة حقيقية وليست نظرية للفساد.
كل ما هو مطلوب وبشكل ملح أن تترجم رؤى وتوجيهات جلالة الملك إلى فعل محسوس، لا إلى إجراءات مترددة تفتقد إلى خطة أو برنامج عمل تفعّل الرغبة في محاربة الفساد والتأكيد على قدسية المال العام والأملاك العامة، ويجب أن يكون ذلك هدفاً وغاية في ظل قوانين صارمة وإجراءات حاسمة ومطاردة دائمة للفساد والمفسدين، وجعل ذلك ضمن أولويات ليس السلطة التنفيذية فحسب، بل ومعها السلطتين التشريعية والقضائية، بالإضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني وقواه الفاعلة، لنفعّل بذلك شراكة الجميع بلا أدنى مواربة في محاربة الفساد بكل ألوانه وأشكاله ومستوياته، المهم ألا تكون هذه المهمة صورية، فذلك يعزز وضع الفساد أكثر مما يحاربه.
المواطن يتمنى أن يرى في الأفق عملاً يحمل موضوع الفساد على محمل الجد، بعد أن طال انتظاره لذلك بأكثر مما ينبغي، هو يتمنى أن نبدأ في العلاج في أي تحرك مسؤول يتسم بمنتهى الجدية نواجه به الفساد بمختلف مظاهره وصوره وشخوصه، مع الأخذ في الاعتبار أننا نقف أمام اختبار جدي وحاسم، المطلوب فيه أن لا يحبط المتفائل..!!
الأيام 29 أغسطس 2008