في إحدى الندوات التي عُقدت في لندن والتي نظمتها غرفةُ التجارة العربية – البريطانية لبحث دور القطاع الخاص في الخليج العربي ركز المناقشون في وجود سيولة مالية كبيرة وفرتها أسعارُ النفط المرتفعة، وتطلع المستثمرون إلى التغلغل في السوق السعودية الأكبر في المنطقة التي تمتلك ربع احتياطي النفط في العالم، وتفاءل المنتدون بدور كبير يجري للقطاعات الخاصة في الخليج. وتوضح الأرقامُ على عكس من هذه التمنيات الطيبة ضآلة القطاع الخاص خاصة في الصناعة رغم إن (معاهد الدراسات والمراكز البحوثية الحكومية) تؤكد العكس.
إن العديد من المنشآت التابعة للقطاع الخاص تتركز في الصناعات المتوسطة والصغيرة. فالأرقام تقول إنه قد بلغ عدد المنشآت الصناعية الصغيرة والمتوسطة في دول الخليج عامة عشرة آلاف منشأة، يتركز معظمها في قطاعي الصناعات البتروكيماوية والبلاستك، والصناعات التعدينية غير البترولية، وتمثل الصناعات الصغيرة والمتوسطة 3،86 من إجمالي عدد المصانع الخليجية. وجاءت دولة الإمارات الدولة الأولى في أعداد هذه المنشآت الصناعية، حيث بلغت 3825 وجاءت السعودية في المرتبة الثانية حيث بلغ عدد المنشآت .3323 وإضافة لعدم توضيح الإحصائيات طبيعة الملكية في هذه المصانع، حيث لا يتم توضيح هل هي قطاع عام أم خاص، تدل هذه الأرقام على ضعف الصناعة في دول الخليج حيث إن المنشآت الصغيرة والمتوسطة هي الغالبية، في حين يغيب توضيح أعداد وطبيعة المؤسسات الصناعية الكبيرة، وتوزع العمالة والقيمة المضافة لكل منهما، لكن هذه النسبة توضح من جهةٍ أخرى سيطرة المؤسسات الصناعية الصغيرة. كما أن الدول الأخرى الخليجية ذات نسب لم تذكر هنا.
لقد بلغ حجم الاستثمار في هذا القطاع الخليجي كله، 8،10 مليارات دولار. في حين إن عدد المصانع البتروكيماوية بلغ 2043 وبلغ حجم استثماراتها وحدها 70 مليارا، وبطبيعة الحال فهذه المصانع حكومية أو فيها مشاركات. إن ضعف دور القطاعات الخاصة في الحياة الاقتصادية هو أمر واضح، وهي في الصناعة أضعف بكثير. وقد بين بعضٌ من الفاعليات الخليجية أسباب شلل حضور القطاع الخاص في الحياة الاقتصادية، فتحدث السيد عدنان البحر من دولة الكويت في المؤتمر الاقتصادي الإسلامي الرابع الذي انعقد في الكويت عن ذلك فقال؛ (إن هيمنة القطاع العام على النشاط الاقتصادي جاء بسبب الاعتماد على النفط كمحرك للنشاط الاقتصادي) ودعا إلى عودة الوضع الاقتصادي السابق (عندما كان القطاع الخاص هو المشغل الأساسي للنشاط الاقتصادي)، وأضاف بأن (الإشكالية الأساسية في دول العالم الثالث نابعة من اعتمادها على الموارد الطبيعية)، وهي حال الدول التي تضخمت فيها الأجهزة وابتلعت الكثير من الموارد. وقال طارق سلطان رئيس إحدى الشركات أن 80% من الموظفين في كل من السعودية والإمارات والكويت يعملون في الدولة، وإنه إذا استمرت أسعار النفط بهذا المستوى فإن دول الخليج سوف تكسب حتى عام 2020، 9 تريليونات دولار.
ويعتقد معظمُ المتابعين والباحثين في المؤتمر المذكور أن هيمنة الحكومات الخليجية على هذه الأموال الضخمة، وسيطرة البيروقراطيات وعدم تطور التعليم لتوفير أجيال تقنية علمية، وعدم دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة هي من أهم الأسباب لتدهور كبير سوف يجري لاحقاً في البناء الاقتصادي ولا يُعرف مداه، والحل في رأيهم هو تحرير الأسواق كما حدث في هونغ كونغ وسنغافورة. إنها انتقادات(خفيفة) من رجال الأعمال للحكومات المهيمنة على أغلبية الموراد والمتصرفة فيها كما تشاء، وهو سبب محوري لغياب فاعلية قيادات القطاع الخاص عن السياسة وعن طرح برامج سياسية بديلة لتلك الهيمنة. فهذه الانتقادات لا توضح طبيعة تراكمات الرساميل في الفروع كافة ونسبها وتوجهات الفوائض النقدية، وكيفية تحرير الأسواق مادامت نسبة الموظفين في القطاعات الحكومية بهذا المستوى، وهو مستوى يوضح النزيف المالي السياسي الكبير، والترهل البيروقراطي على جسم المجتمع، وكيف يمكن إعادة تأهيل مثل هذه العمالة شبه العاطلة، وعلاقة ذلك ببقاء أكثر النساء في المنازل والاعتماد على العمالة الأجنبية بصورة كارثية.
بطبيعة الحال تقود مثل هذه الأسئلة إلى ضرورة تفعيل دور البرلمانات في إعادة رسم الخريطة الاقتصادية، وتصعيد نسبة مشاركة رجال الأعمال وقوى الفئات الوسطى الصناعية في العمل السياسي، ومساهماتها الاقتصادية في رفع نسب المشاركة الخليجية في الإنتاج الصناعي، لاحتواء أفق مستقبلي مفتوح على المخاطر وغياب التخطيط وسيادة الروح القدرية السلبية. بطبيعة تطور الدول الشرقية فإن ذلك يبقى مساهمة جزئية مُحاصرة بين جبال المؤسسات الرسمية، لكن لابد من ذلك بسبب وضع الثروة المؤقتة.
أخبار الخليج 29 أغسطس 2008