المنشور

الأم والكتاكيت السياسية

تتعامل الأنظمة الشرقية خاصة مع قوى المعارضة وكأنها كتاكيت صغيرة لابد أن تـُحضن حتى تكبر. إن الطابع الأبوي يتبدى في (القصَقصَة) المستمرة لأجنحة هذه الكتاكيت حتى لا تطير وتعرض نفسها للأخطار! ومن هنا يجري ربط هذه الكتاكيت بالوزارات الأمومية كالشؤون الاجتماعية أو العمل، فالطابع الأبوي الحنون متوار، فيجب ألا تـُخدش الجماعات السياسية الطفولية بكونها قاصرة وتحتاج إلى رضاعات مالية تصنع لها بعض الريش واللحم لكي ترابط عند أمها الحنون ولا تطير. وكلما ازداد عدد الكتاكيت كان ذلك أفضل من أجل أن تلوذ بالأرض وتتصارع على الحبوب.
إلى ماذا يرجع هذا الرسوخ للثقافة الشمولية في الشرق عند الدول والجماعات السياسية والشعوب؟ إن الدجاجة الكبيرة، الدولة، تمتلك مخازن الحبوب، لقرون طويلة، وكونت العادات والثقافة عند الشعوب لكي تتخصص هذه في التقاط الحبوب من الأرض حيث تـُلقى عليها، فترى الجمهور الشعبي وقد عاش طوال حياته يكره السياسة، وهي الثقافة التي تجعله يرفع رأسه لفوق، ويبحث عن سبل العمل المستقلة، فينحو في حياته ليس لالتقاط الحبوب بل لزرعها وصناعتها أو لانتزاعها من المخازن المغلقة. وراء الكتاكيت السياسية يجثم الشعب مصدر السلطة الضائعة، الذي تخصص في ألا تكون له سلطة، بل أن تتسلط عليه الدول والحكومات والهيئات المختلفة والأقدار، وأن يُسجن في الأعمال اليدوية الصغيرة الشاقة المحدودة، أو في الأعمال الذهنية الجزئية، فيفقد كل قدرات العقل على التحليق الحر، فتأتي كل ثقافات التسلية والغيبيات لكي ينتظر ويقنع بعيشه الصغير، وبزنزانته السياسية الاجتماعية العظيمة، فيكره التجديد في أي شيء، ويكره البدع، والعلوم الجديدة، وتغيير العادات وتعرية الزعماء السياسيين ونقد الأفكار السياسية الخاطئة أساس عبوديته وعدم طيرانه. وما دامت الشعوب نائمة ومقيدة في شموليتها العريقة، وسلبيتها، وثقافة التقاط الحبوب من الأرض وكره السياسة والتجديد، فما تنتجه من تيارات سياسية لا يخرج عن قوى شمولية لا تستطيع أن تتجاوز شعوبها الشمولية، بل تغدو إعادة إنتاج لما هي عليه وتكرار لما سبق، وألحانا متعددة لذات النغمة الأساسية، فهي دجاجات أخريات تريد أن تحل محل الدولة. وهكذا فإن الشرق لا يشهد تجارب ديمقراطية لأن نسيجه الاجتماعي الحكومي والشعبي لا يعرف ما هي الديمقراطية أصلاً. فليست الديمقراطية الشرقية سوى تسويات وصراعات داخل حلبة الشمولية والاستبداد، فهنا تتوزع معسكرات الاستبداد بهذه الدرجة أو تلك من تمثل بعض المصالح العامة والشعبية، ولكنها في العمق تعضُ على كراسيها أشد العض، وتتمسك بامتيازاتها الموروثة أشد التمسك. فعلينا ألا نـُصاب بلوثات عقلية بأن ما يجري هو ديمقراطية، وهي لوثات تحدث من كثرة ترديد هذه المفردة نظراً لعمليات غسل الدماغ التي تجري يومياً. لا شك إن الديمقراطية قادمة للشرق لا محالة، ولكنها ذات قوانين اقتصادية تتمثل في ظهور طبقة حرة ولديها وسائل إنتاج قوية قادرة على الوقوف في وجه الدول المحتكرة لوسائل الإنتاج والعيش والإعلام. وفي الطريق إلى ذلك لابد من ثقافة ديمقراطية تتغلغل بين الشعوب، إلى الجمهور الأمي القليل التعلم، وللجمهور المثقف الذي يعيش على مخلفات الثقافة العبودية، وأن يعي بأن ثمة قوانين واحدة لتطور البشرية وأن الديمقراطيات الشرقية هي استبداديات جديدة بأزياء مستوردة شكلية من الغرب، فهي لم تذهب لجوهر تجربة الغرب الديمقراطية، بل استعارت الصبغة الخارجية للجسم وتخلت عن العمق، الذي يعني شعوباً ديمقراطية خرجت عن سيطرة الدول والأديان وتقوم بإيجاد سياسة تعبر عن مصالح طبقاتها الأساسية وليس عن شلل الحكم والزعماء. وإذا كانت شعوب الشرق تمر الآن بمرحلة انتقالية نحو الديمقراطية فلا بد من ألا يكون مخزن الحبوب تابعاً للحكم، وأن تحدث عمليات تدرج بين إشاعة المنافع الاقتصادية للطبقات الفقيرة والانتقال للديمقراطية ولانتشار الوعي لا الدجل الانتخابي، فإذا كانت الديمقراطية هي إعادة توزيع جديدة للثروة للطبقات الغنية والحاكمة فتكون هي الفوضى وليس الديمقراطية!
 
صحيفة اخبار الخليج
28 اغسطس 2008